من تاريخ المنتخبات (2)... الأرجنتينيون وجرعة الأفيون المفقودة منذ عقود

24 نوفمبر 2022
من أحداث شغب في بيونس آيرس لحقت هزيمة الأرجنتين في نهائي كأس العالم 2014 (Getty)
+ الخط -

مثل مرآةٍ، تعكس المنتخباتُ البلادَ التي تُمثّلها، فهي تجمع عناصر هويّتها وتكثّفها في فريق من 11 لاعباً كأنما يختزلون شعباً. مسار هذه المنتخبات عبر السنوات والمسابقات الكروية الكبرى يعمل مثل تاريخ موازٍ للأمم، ستضيئه هذه السلسلة التي ينشرها موقع "العربي الجديد" بمناسبة كأس العالم قطر 2022.

منذ 1986، تنتظر الأرجنتين مُخلِّصاً. في دورة كأس العالم عامها، حمل دييغو أرماندو مارادونا منتخبه على أكتافه إلى منصّة التتويج بأهداف خرافية وتمريرات سحرية، فهل تلك هي الطريقة الوحيدة لتعود الأرجنتين إلى قمة الكرة العالمية؟

أنجبت الكرة الأرجنتينية عشرات المواهب بعد مارادونا، لكن يبدو الأمر وكأنّ سحب لاعب واحد يؤدّي إلى اختفاء شيفرة الفوز. ذلك ما حدث حرفياً في كأس العالم 1994، لعب مارادونا مع الأرجنتين مباراتين (اليونان ونيجيريا) كان الفوز من نصيبها، وغاب في اثنتين (بلغاريا ورومانيا) فخسرتهما. لم يكن ذلك الفريق خالياً من المواهب فقد ضم في صفوفه كانيجيا وسيميوني وباتيستوتا وريدوندو، وفي دورة 1998 عاد باتيستوتا ومعه فيرون وأورتيغا وكريسبو لكنهم خرجوا من الربع النهائي، وبنفس هذه الكوكبة من النجوم ذهبوا إلى أقصى الشرق في دورة 2002 وخرجوا من الدور الأول، ثم عوّلوا على ريكليمي وأيمار وتيفيز في 2006 لكنهم فشلوا أيضاً.

في 2010، استعادوا مارادونا مدرباً، ولم يكن ذلك كافياً لفك النحس حتى مع التعويل على ميسي. وفي 2014، تهيّأ للبعض - مع مباريات الدور الأول ضد البوسنة وإيران ونيجيريا - أن ميسي يحاكي في البرازيل ملحمة مارادونا في المكسيك، لكنه في المباراة النهائية أهدر فرصة لم يكن يضيع مثيلاتها في برشلونة، كما حرمه صديق العمر غونزالو هيغوايين من التقدّم بهدف، ومن ثمّ اقتنص الألمان اللقب العالمي بلا رحمة حين أتتهم الفرصة في الأوقات الإضافية.

أخيراً حين عادوا في 2018، كان ميسي قد طغى حتى لم يعد هناك فريق، فقدّمت الأرجنتين نسخة سيئة بهزائم صعبة النسيان (3-0 ضد كرواتيا و4-3 ضد فرنسا). من الواضح، أن صفوف الأرجنتين قد رُتبت قبل اختبار المونديال العربي خصوصاً مع فك عقدة التتويجات الدولية بإحراز لقب كوبا أميركا 2021 في البرازيل، لكن لن يعني ذلك أن الطريق معبّدة نحو اللقب فدونه فرق متوثّبة بمواهب لاعبيها وخطط مدرّبيها، وقبل أن ينتصر على كل هؤلاء على المنتخب الأرجنتيني أن ينتصر على نفسه أولاً.

كان الأرجنتينيون حاضرين في أوّل نهائي من كأس العالم (1930) غير أنهم اصطدموا بأوروغواي، مستضيفة الدورة، والتي تحب أن تحتفل بمئوية استقلالها بالجلوس على قمة كرة القدم. ربما، وفي ما عدا الأوروغوانيين، لم يأخذ أحد كأس العالم تلك على محمل الجد، وبشكل خاص لم تنظر الأرجنتين - رسمياً على الأقل - إلى كرة القدم باعتبارها ظاهرة ذات أهمية إلا متأخراً، مقارنة بالجار البرازيلي مثلاً أو إيطاليا التي ينحدر منها جزء كبير من الأرجنتينيين وقد أحرزت كأس العالم في 1934 و1938. ولعل تفريط الأرجنتين في ألفريدو دي ستيفانو، أفضل لاعب في العالم في الخمسينيات وبداية الستينيات، لصالح إسبانيا يؤشّر على قلة الاهتمام بكرة القدم وقتها.

كانت الأرجنتين مشغولة بالسياسة والانقلابات أكثر من كرة القدم، ولن تنتبه إلى اللعبة الساحرة إلا من زاوية السياسة تحديداً حين بحث النظام العسكري الحاكم بقيادة خورخي رافاييل فيديلا عن الخروج من العزلة الدولية ووجد في تقديم طلب لتنظيم كأس العالم فرصة سانحة لتبييض صورة البلد القاتمة في سنوات الرصاص. ولم يكن لتلك "المناورة" لتنجح دون مباركة الفيفا، في وقت تصاعدت دعوات المقاطعة حتى أن أحد أبرز نجوم الكرة وقتها، يوهان كرويف، لم يذهب مع زملائه إلى الأرجنتين.

أما الهدف الثاني الذي أصابه نظام فيديلا، فكان ترتيب مصالحة مع الشعب ضمن موجة الأفراح بالانتصارات المتتالية للمنتخب بقيادة دانييل باساريلا وماريو كامبيس وصولاً للتتويج بكأس العالم. وقتها فهم الجميع أن كرة القدم باتت الأفيون الجديد للشعب الأرجنتيني، ويمكن ترويج التجربة مع الشعوب كافة.

في تلك الدورة اختار المدرب مينوتي التخلي عن مارادونا في آخر لحظة قبل المشاركة في كأس العالم، باعتباره لاعباً شاباً يفضّل تركه ينضج على نار هادئة، ويبدو أنه حسناً فعل فقد اختمر اللاعب الموهوب ليخرج كـ"رجل خارق" بعد ثمانية أعوام ويهدي الأرجنتين لقبها العالمي الثاني.

لكن الأسطورة التي اكتملت عناصرها في نابولي الإيطالية، اختيرت لها نهاية تراجيدية في إيطاليا بالذات، وقد استضافت كأس العالم 1990، وهناك واجه مارادونا تنمّر الجمهور (خصوصاً في مباراتي إيطاليا وألمانيا) وتعسّف الحكّام وعنف المنافسين، ناهيك بما بطنَ من التلاعبات في الكواليس. وبعد سنوات قليلة من الاعتراف به لاعباً فوق العادة، كأن عالم الكرة لم يعد يحتمل أن يلعب في ميدان واحد مع لاعب خارق. وحين انتهت كأس العالم على دموع مارادونا بخسارة كأس العالم ضد ألمانيا، بدأت بعدها مباشرة دوامة جديدة مع المخدرات والمنشطات هوى معها نجم مارادونا والأرجنتين معاً.

ولقد صادف أن عاشت الأرجنتين في التسعينيات التي تقابل كسوف مارادونا، على وقع أزمات اقتصادية وسياسية متتالية، بلغت ذروتها في 2002 مع انهيار العملة الوطنية والارتفاع الجنوني للأسعار، وهي أزمة لا تزال تستمر فصولها إلى اليوم. وحدها كرة القدم يمكنها أن تخفّف على الشعب الأرجنتيني، تحديداً جرعة التتويج بكأس العالم مجدداً.

المساهمون