استمع إلى الملخص
- **النجاحات والتحديات في البطولات الكبرى**: حققت تركيا بعض النجاحات، مثل الوصول إلى نصف نهائي كأس العالم 2002، وظهور مميز في بطولة أمم أوروبا. الأندية التركية أظهرت نجاحات في الكؤوس الأوروبية.
- **التأثير السياسي والاقتصادي على كرة القدم التركية**: التحديات السياسية والاقتصادية أعاقت اندماج تركيا في أوروبا، رغم محاولاتها منذ عام 1987. المنتخب التركي يعبر عن رغبة في التفوق مستقبلاً.
مثل مرآةٍ تعكس المنتخباتُ البلادَ التي تُمثّلها، فهي تجمع عناصر هويّتها وتكثّفها في فريق من 11 لاعباً كأنما يختزلون شعباً. مسار هذه المنتخبات عبر السنوات والمسابقات الكروية الكبرى يعمل مثل تاريخ موازٍ للأمم، تضيئه هذه السلسلة التي يستأنف موقع "العربي الجديد" نشرها بمناسبة بطولتي اليورو وكوبا أميركا 2024. تتناول حلقة اليوم تاريخ منتخب تركيا.
ماذا لو كان المنتخب التركي يلعب في قارة آسيا؟ كان على الأرجح سيحقّق أفضل مما حقّقه وهو يشارك في المسابقات الأوروبية، حيث منعته منتخبات الصف الأول في الكرة العالمية، وهي كثيرة في أوروبا، من الوصول إلى معظم البطولات الكبرى. إذن، لو أن تركيا كانت تلعب في قارة آسيا، يمكن أن نتوقع أنها كانت ستحقق أكثر من مشاركتين لا غير في المونديال من أصل 22 دورة، وربما أحرزت أحد الألقاب القارية خلال قرن من وجودها الكُروي. لكن أولوية الأتراك كانت مختلفة وفق ما يرتسم من تاريخ بلادهم الكروي.
تسمح لك الجغرافيا أن تكون هنا وهناك، أما كرة القدم فهي تجبرك أن تختار. صحيح أن معظم الأرض التركية تقع في آسيا، وأن ثلاثة بالمئة لا غير من ترابها يلامس القارة العجوز، لكن ذلك كان كافياً كي تنتمي تركيا إلى الاتحاد الأوروبي لكرة القدم (يويفا)، منذ عام 1962. وفيما نفترض أن هذه العقود المتتالية قد تجعل من تركيا مألوفة في المشهد الأوروبي، لكن ذلك لم يتحقق إلا بمقدار، ففي هذه اللعبة تطفو على السطح مكوّنات الهوية فتفترق معظم البلاد الأوروبية عن الأتراك في أغلب العناصر، ما يجعل بعض المباريات محفوفة بالتوتر، خصوصاً حين يتعلق الأمر ببلدان لها مع تركيا تاريخ سياسي بعيد، مثل ألمانيا واليونان وفرنسا.
مقابل الانتماء لأوروبا كروياً، أمضت تركيا عقوداً طويلة بقي فيها منتخبها في الظل
منذ تأسيس جمهوريتها على أنقاض الخلافة العثمانية، عام 1923، انبعثت الجامعة التركية لكرة القدم في ما يمكن فهمه كاستكمال لمظاهر التحديث التي كان الأتراك يستلهمونها من القارة الأوروبية. ومباشرة انضمّت تركيا للاتحاد الدولي لكرة القدم دون مشاركات في مسابقات دولية، وغالباً كان الموقع الجغرافي بين القارات سبباً في عدم التحام الكرة التركية بالمنظومة الدولية سريعاً، ففي أول تصفيات تخوضها من أجل المشاركة في كأس العالم 1934، وُضعت تركيا لتواجه مصر، غير أنها انسحبت قبل خوض أي مباراة، وكان يمكن في تصفيات 1950 أن تضعها "فيفا" ضمن المنتخبات الآسيوية، لكن لم تشارك وقتها إلا منتخبات من أقصى الشرق، فتقرر أن تلحق بمجموعة في شرق أوروبا تسهيلاً لتنظيم المباريات، وكذلك في تصفيات مونديال 1954 حين التقت بإسبانيا من أجل بطاقة التأهل، تماما كما فعلت "فيفا" مع مصر حين وضعتها في مواجهة إيطاليا.
هكذا، وبسبب تذبذب المشاركات، تأخّرت نهضة الكرة في تركيا، وكان تطويرها يحتاج إلى انتظام لم يكن متوفراً إلا في القارة العجوز. استغلّت ذلك الجزء الأوروبي من أرضها لدعم موقفها للانضمام إلى "يويفا". كانت المسألة بسيطة نسبياً، على الأقل لو قرناها بما واجهه المطمح التركي للانضمام للاتحاد الأوروبي، بمعناه الاقتصادي والسياسي، لاحقاً. لكن تركيا أمضت بسبب هذا الاختيار عقوداً طويلة بقي فيها منتخبها في الظل.
حملت نتائج الأتراك في أول مونديال يشاركون فيه (سويسرا 1954)، إشارة كي يرجّحوا بين آسيا وأوروبا، فقد خسروا أمام ألمانيا بنتيجة 7-2، وفازوا على كوريا الجنوبية 7-0 وانسحبوا من الدور الأول. يعني كان الاختيار أن تكون بطلاً وهمياً بين ضعفاء أو تقبل أن تكون ضعيفاً وتتمرّس عبر مزاحمة أقوياء اللعبة. وكان اختيار الأتراك حاسماً.
منذ المشاركة المونديالية الأولى لم تعد تركيا إلى كأس العالم إلا عام 2002، ثم غابت مجدداً إلى أيامنا. ومن الغريب أن نجد نتائج المنتخب التركي أفضل على مستوى بطولة أمم أوروبا، حيث وصل إلى النهائيات ست مرات، علماً أن التصفيات لليورو أو للمونديال تقام بين المنتخبات نفسها. وحين فكّرت تركيا في الترشّح لاستضافة إحدى البطولات الكروية، تقدّمت لتنظيم أمم أوروبا قبل كأس العالم، وبعد رفض أكثر من ملف، قبلت "يويفا" منحها تنظيم دورة 2032 بالاشتراك مع إيطاليا.
حتى على مستوى الأندية، من السهل أن نقف على رهانات تركيا الأوروبية. وفي الحقيقة، تُظهر الأندية نجاحات في الاندماج الكروي في أوروبا أكثر من المنتخب، حيث تشارك فرق مثل فنربخشه وغلطة سراي وبشكتاش في الكؤوس الأوروبية بانتظام سنوي وليس نادراً أن تتجاوز أدوار المجموعات. ولا تكاد تخلو تشكيلة لهذه الفرق من لاعبين أوروبيين، وهم إضافة إلى الأجانب الآخرين في الفرق التركية من برازيليين وأفارقة وغيرهم، منحوا اللاعبين الأتراك فرص احتكاك مستمرة لتطويرهم، لكنهم أيضاً يأخذون مواقع كان يمكن أن يشغلها اللاعب التركي خصوصاً مع منعطف التسعينيات حين باتت الأندية التركية تبالغ في جلب اللاعبين الأجانب، وصولا إلى السماح بأن تتكوّن التشكلية من لاعبين أجانب بالكامل، وذلك أسوة بالفرق الأوروبية في إنكلترا وإيطاليا وإسبانيا، أملاً في مزاحمتها في الكؤوس الأوروبية، وقد تحقق هذا الهدف بتتويج نادي غلطة سراي عام 2000 بكأس الاتحاد الأوروبي. لكن، مرة أخرى، أتى وضعُ خطوة في أوروبا على حساب نتائج المنتخب.
لا يتعلّق الأمر فحسب بتغليب اللاعبين الأجانب في الأندية التركية، بحيث لا يجد المنتخبُ اللاعبين المميّزين دائماً، بل أيضاً لأن خريطة النوادي التركية تكشف انقسامات عميقة في تركيا. من المفترض أن تحوّل المنتخبات الوطنية التنافس الداخلي إلى طاقة تشغيل، غير أن المنتخب التركي لا يتاح له ذلك، لأن رهانات الأندية كانت لعقود أكبر من رهانات منتخب لا أمل له في لعب الأدوار الأولى في أوروبا. كما أن منتخباً لا يظهر كثيراً في المسابقات الكبرى لن يقوم بدوره في تنفيس مشاعر الانتماء القومي، فإذا علمنا ما لدى شرائح من الأتراك من تعصّب للهوية التركية، فهمنا ما افتقدته البلاد بعدم توفّر منتخب تنافسيّ زمناً طويلاً.
كان الأتراك بحاجة لمنتخب قوي لتنفيس مشاعر الانتماء القومي
لم يتغيّر هذا الوضع إلا منذ وقت قريب. كانت التسعينيات أول نقطة ضوء في النفق المظلم. في 1996، نجح المنتخب التركي في الوصول إلى نهائيات بطولة أوروبا لأول مرة. ورغم النتيجة الرياضية المتواضعة والخروج من الدور الأول، إلا أنها كانت خطوة كبيرة إلى الأمام، وخصوصاً أن المنتخب نجح في التأهل مجدداً في الدورة التالية، وأكثر من ذلك تخطى الدور الأول. وبجيل أوميت دافالا وروستو وهاكان شوكور نفسه، ترشحت تركيا إلى نهائيات كأس العالم 2002، وحقّقت نتائج باهرة وصولاً إلى نصف النهائي، حتى اعتقد الأتراك أن بلدهم قد أخذ أخيراً الموقع الذي يستحقه كقوة كروية صاعدة، غير أن المنتخب فشل في التأهل إلى المونديال التالي في ألمانيا 2006.
قوس النجاحات التركية من 1996 إلى 2002 أظهر نجاح الرهان التركي على الحضور في أوروبا، فأن تلعب كل عام في دوري الأبطال وبقية المسابقات القارية يعني أن الدوري التركي بات سوقاً مزدهرة لـ"اليد العاملة" الكروية، بعائدات أعلى وبظهور أكبر في الإعلام، وتسويق أفضل للاعبين الأتراك، ناهيك عن تطوير مهاراتهم، وقد حقق عدد منهم مسيرات لافتة في أندية أوروبية بارزة، مثل إمري في إنتر الإيطالي، ونهاد قهوجي في ريال سوسيداد، وأردا توران في أتليتيكو مدريد ثم برشلونة، وصولاً إلى أردا غولر الذي وصل في العام الماضي إلى ريال مدريد بعمر 18 عاماً.
بروز اللاعبين الأتراك خارج بلادهم أتاح للمنتخب أفق تطوّر جديد لم تبرزه النتائج بعد بشكل جلي، ولكنه يظهر من خلال اكتساب المنتخب التركي شخصية قوية، فلا يسلّم بالهزيمة إلى آخر أنفاس المباريات. تجسّد ذلك في دورة أمم أوروبا عام 2008، بقيادة المدرّب فاتح تريم، حيث كان المنتخب يقلب في كل مرة نتائج المباريات، فقد سجّل في الدقيقة الأخيرة في ثلاث مباريات حاسمة متتالية وصولاً إلى نصف النهائي، ومن ثمّ انهزم أمام ألمانيا بهدف في الدقيقة الأخيرة أيضاً.
كانت تركيا تأمل بأن تكون كرة القدم مدخلاً لاندماج أوسع في أوروبا، غير أنها - حين يتعلّق الأمر بالاقتصاد والسياسة - تجد الصد والتلاعب، فقد جعلت بلاد أتاتورك من الانضمام للاتحاد الأوروبي هدفاً وطنياً منذ تقديم ترشحها عام 1987. في كل مرة يقترب فيها الأتراك من تحقيق هدفهم كانت تظهر اشتراطات أوروبية مجحفة، مثل تسوية الخلافات مع اليونان، الاعتراف بالإبادة الجماعية للأرمن، أو الانسحاب من قبرص، وصولاً إلى طرق مسدودة أفضت إلى تعليق مفاوضات الانضمام عام 2016. وقد تغيّرت سياسات تركيا تجاه أوروبا مع التحوّلات السياسية التي عرفتها، خصوصاً منذ منعطف 2002 مع صعود رجب طيب أردوغان للحكم.
في مناسبات كثيرة عبّر المنتخب بحماسته المفرطة وهو يواجه منتخبات أوروبا عن الثأر من مماطلات السياسة. وقد يصبح اندفاع الأتراك والحميّة التي يلعبون بها الكرة عامل تفوّق في ظل تراجع واضح للروح القتالية لدى منتخبات أوروبية كثيرة ناهيك عن أزمات عدد منها في إنتاج وإعادة إنتاج المواهب، وعلى مدى منظور قد تحتل تركيا مواقع كروية لطالما كانت محجوزة لمنتخبات بعينها.
إذا تحقّق ذلك تكون تركيا قد كسبت رهانها الرياضي القديم في الانضمام إلى أوروبا كروياً. لكن دروس السياسة والاقتصاد أثبتت أن اندماج تركيا في أوروبا له حدود من العسير تخطيها. ولم تكن كرة القدم من البداية غير رصيد سيُصرف في أسواق أخرى، فإذا تبيّن أن أبوابها موصدة دون الأتراك، فعلى أي نحوٍ سيواصلون لعبها؟