لا يمكن فتح تحقيق، أو إرسال لجنة تقصّي حقائق، أو تشكيل هيئة دفاعية محلية أو عالميّة، لإثبات أنّ الجريمةَ "إبادةٌ جماعية" و"تطهيرٌ عرقي" بحقّ سكّان غزّة، والفلسطينيين عامة. في حال تمّ هذا، فالأمر يُمكن أنْ يكون تشكيكاً، ولو بسيطاً، في حدوثها. لكنْ، لا بُدّ، انطلاقاً من الشكل القانوني على الأقلّ، أنْ تأخذ الأمور مجراها بهذه الصيغة، لإعداد أوراق ومعاملات مكتبية كثيرة، والتنقّل من رواق إلى آخر، ليصدر، بعد سنوات، تقريرٌ سميك يُعدّد البنود والمواد القانونية والحيثيات والسياقات التاريخية، ويقولون في ظلّ كذا وكذا، وانطلاقاً من كذا وكذا، فما وَقع، وَقع فعلاً، لكنّه لم يكن بتلك الصورة.
لهذا، ستتساوى الضحية والجلّاد، خاصة أنّ تلك الهيئة القانونية، التي تعرف بـ"محكمة العدل الدولية"، تملك السلطة المناسبة، وستردم القضية كما فعلت مرّات كثيرة، وسيتمّ "إبادة" الضحايا الفلسطينيين مجدّداً، لأنّ من يُسيّر ويُهيمن على تلك المحاكم، خصومٌ وقضاة في الوقت نفسه.
الأسئلة المحورية يمطن طرحها في صِيغ عدّة: كيف يُمكن توثيق جرائم الإبادة التي يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي، بمباركة قوى عظمى عدّة، على سكان غزّة؟ ما أنجع وأنجح الطرق لإيصالها إلى الأجيال المقبلة بصورة سليمة، وبالآلام نفسها التي عرفها هؤلاء الضحايا؟ أين يمكن العثور على أفضل وأقوى القوالب لتثبيتها في ذهن كلّ فرد، كي لا تسقط بالتقادم، وتُمحى كغيرها؟
الجواب سهلٌ: التوجّه إلى السينما، لأنّها أكثر الفنون جماهيرية وتأثيراً، وأقدرها على رسم أبعاد الجريمة ومرتكزاتها، إذْ سبق لها أنْ نقلت، وأعادت رسم أبعاد جرائم إبادة وتطهير عرقي وعنصرية عبر التاريخ، المرتكبة في حقّ المدنيين العزل، لأهداف عدّة، ربما أكثرها شرّاً محو الجنس الآخر تماماً، وهذا يحدث حالياً في غزّة من الاحتلال الإسرائيلي الذي استعمل الطرق المعروفة والسرّية لإبادة الفلسطينيين، وإضعاف نموّهم الديموغرافي، ليسهل عليه طرد الباقين منهم إلى المنافي والمخيمات والسجون، مُستعملاً الأساليب الخسيسة واللاإنسانية نفسها التي استعملتها قبله الولايات المتحدة الأميركية في حقّ السكّان الأصليين من الهنود الحمر. كلّ هذا للانتصار للجنس اليهودي، مُتناسين ما حدث لهم من النازية، التي حاولت محوهم. من عبثية القدر، أنّهم يستعملون حالياً الجرائم نفسها المرتكبة في حقّهم، وإسقاطها على الفلسطينيين، مُتجاوزين بذلك دروس التاريخ.
تزخر السينما العربية بأفلام جيدة ومعقولة، سايرت منذ تأسيسها مدارس وتيارات وأنواعاً سينمائية. لكنْ، لا يُمكن مقارنتها ببعض السينمات العالمية، لأنّها لم تستطع اللحاق بركبها، ولا بتجاربها وتنوّعها. بالعودة إلى كلاسيكيّاتها، وإلى ما أنتج حديثاً، لا يُمكن العثور على فيلمٍ جيد، مُنجز بمعايير فنية، يُجسّد واقعة إبادة أو تصفية عرقية، والوقائع الحاصلة في الجغرافيا العربية كثيرة، وتُغطّي حقباً زمنية مختلفة، أكثرها إبادات جماعية، ولا أقول "إبادة" واحدة، ومعظمها ارتكبه الاستعمار، أكان فرنسياً أو بريطانياً أو إسبانياً أو إيطالياً أو أميركياً، وغيرها كثير. هذه أحداث تملك شرطها السينمائي، ومؤثّثة بطريقة جيّدة وغنية، كأنّها سيناريوهات جاهزة، لكنّها تبقى بعيدة عن السينما، وبالتالي بعيدة عن العالم.
أكثر من هذا، الأنظمة العربية ومؤسّساتها الثقافية كانت، ولا تزال، تملك أوراقاً جيّدة لاستعمالها عالمياً، لإعادة تجسيد تلك الجرائم سينمائياً، لضمان عدم تكرارها؛ وفي الوقت نفسه، لإظهار ما يُمكن للمستعمِر أنْ يفعل. لكنّ الأنظمة والمؤسّسات تلك لا تملك هذه العين الثاقبة التي ترى بعيداً، وتعي جيداً ما يُمكن أنْ تفعله السينما، جماهيرياً ورسمياً.
الجزائر، كغيرها، تملك قائمة كبيرة من جرائم الإبادة التي ارتكبها الاستعمار الفرنسي في حق الجزائريين العزّل، في 132 سنة (1830 ـ 1962)، لكنّها لم تستطع عكس تلك "الفظائع والجرائم" سينمائياً. هناك فقط أفلام تمجّد الفرد، أو عبور صغير لم يعكس حجم الحدث، أو أنّها فشلت في إعطاء مفعول عكسي بسبب ضعفها. وبدل أنْ ترسم أبعاد الإبادة بحِرفية، قدّمتها بشكل اعتباطي وغير مدروس، كـ"هليوبوليس" (2021) لجعفر قاسم، الذي تناول جريمة الاستعمار الفرنسي الذي قتل، في 8 مايو/ أيار 1945، أكثر من 45 ألف جزائري، بعد قيامهم بتظاهرات تنادي بالاستقلال. يومها، تنوّعت أساليب القتل، كالرصاص وأفران الغاز والرمي من الجبال والطعن، وغيرها. رغم هذه المؤشّرات القوية، قدّم الفيلم بعضها بضحالة، ما أعطى تأثيراً عكسياً.
المخرج الجزائري الفرنسي رشيد بوشارب حاول تقديم صورة سريعة عن جرائم 1945، في "خارجون عن القانون" (2010)، لكنّه لم يركز عليها كما ينبغي، رغم ما أثاره الفيلم من نقاشات عالمية.
هناك جرائم إبادة متنوّعة لم تتطرّق السينما إليها، وانْ فعلت، لم تستطع نقل اللحظات المؤلمة والفارقة للضحايا، فسقطت في خانة العاديّ، كاستعمال الجزائريين في التجارب النووية الفرنسية في الجزائر، والقصف بالنابالم المُحرّم دولياً، وإبادة عروشٍ وقبائل بكاملها، كما حدث بأولاد رباح سنة 1845، عندما لجأ نحو 2000 جزائري، نساء وأطفالاً وشيوخاً، إلى مغارة، خوفاً من بطش الاستعمار. لكنّ الحاكم العام للجزائر، روبير بيجو، أمر بحرقهم في المغارة: "إذا لجأ قطّاع الطرق هؤلاء إلى مغاراتهم، فتصرّف معهم كتصرّف كافينياك بقبيلة صبيح، الذي أحرقهم فماتوا كالثعالب". هذا حدث فعلياً، إذْ بقيت النار متّقدة نحو 20 ساعة، فأحرقتهم وأحرقت عظامهم. هذه الجرائم تناولتها أفلام عدّة، وثائقية خاصة، لكنّها لم تكن بالقوّة المطلوبة لنقل هول الحدث.
شهدت فلسطين، منذ عام 1948 وقبله وإلى اليوم، مجازر مهولة كثيرة، بعضها وثّقه التاريخ، وأخرى مُحيت أخبارها نهائياً. نقلاً عن "مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات" (مقرّه بيروت)، فإنّ "عدد المجازر التي ارتكبتها العصابات الصهيونية، بين عامي 1937 و1948، زادت عن 75 مجزرة، راح ضحيتها أكثر من 5 آلاف شهيد فلسطيني، فضلاً عن إصابة الآلاف".
المجازر والإبادات الجماعية المشهورة، المُكرّسة في الذاكرة العربية، والمتعلّقة أساساً بفلسطين والفلسطينيين، مرّت بدورها في حقبٍ زمنية مختلفة، منها مجازر دير ياسين والطنطورة واللدّ (1948)، وكفر قاسم وخانيونس (1956)، والأقصى الأولى (1990) والحرم الإبراهيمي (1994)، وجنين (2002)، وكلّها في فلسطين. هناك أيضاً مجازر في لبنان: قانا (1996) بعد 14 سنة على مجزرة صبرا وشاتيلا (1982). إضافة إلى مجازر أخرى ضد غير الفلسطينيين.
قائمة المذابح والمجازر والإبادات الجماعية طويلة، لا يُمكن حصرها بسهولة. وربما آخرها لن تكون الأخيرة، كالحاصل حالياً في قطاع غزّة والضفة الغربية، من قصفٍ للكنائس والمساجد والمشافي والمدارس على من فيها من عائلات ونازحين.
ما حدث ويحدث كبير وعظيم. لكنّ السينما الفلسطينية (وسينما متعاطفين مع فلسطين) لم يستطيعوا مُسايرة تلك الجرائم سينمائياً. هناك تجارب محدودة أسقطت تهمة "عدم المحاولة"، وهذا لأسباب عدّة، أبرزها معروف، ولعلّ أهمها نقص التمويل، وغياب الصناعة السينمائية، والمحاصرة، وعدم قيام الدولة الفلسطينية، وغيرها من المعطيات الأخرى.
لكنْ، رغم هذا، سُجِّلت تجارب عدّة، أهمّها ما قدّمته السينما التسجيلية الفلسطينية في العقود الماضية، وتجارب في السينما الروائية، كـ"كفر قاسم" (1975) للّبناني برهان علوية. أمّا السينما الوثائقية، فمنعكسة في "جنين جنين" (2002) لمحمد بكري، الذي أثار ردود فعل حادّة، خاصة من المحتلّ الإسرائيلي، الذي خاف من قوّة الصورة، وما يمكن أنْ تُحدثه، فجهد في محاصرتها ومحاصرة مخرجها. هناك أفلام كثيرة نقلت مجازر عدّة في تاريخ المحتل الإسرائيلي، لكنّها لم تصل إلى مرتبة التأثير العالمي، الذي أحدثته أفلامٌ أوروبية وأميركية تناولت قضايا مشابهة.
إبادات جماعية كثيرة مُغيّبة من العقل الغربي. وعبر هذا التغييب، تمّ تناسي مسبّبها، أي المجرم، كمجازر حصلت في أفريقيا، منها ما وقع في روندا عام 1994، عندما قتلت الـ"هوتو" أكثر من 800 ألف "توتسي". حَدث هذا بالتعاون مع مرتزقة فرنسيين، مدعومين من فرنسا. استطاعت السينما إعادة تجسيد هذه الإبادة الجماعية العرقية في أفلام عدّة، كـ"فندق روندا" (2004) لتيري جورج: قصّة حقيقية تروي سيرة بول روسيسا باجينا، مدير الفندق "ميل كولينز" (5 نجوم)، الذي استقبل 1268 لاجئاً من الـ"توتسي"، فرّوا من ميليشيا الـ"هوتو". بين اللاجئين زوجته وأولاده، لحمايتهم من الإبادة الجماعية، بالتعاون مع منظّمة الأمم المتحدة.
هناك أفلام أخرى تناولت هذه الإبادة، منها "إطلاق الرصاص على الكلاب" (2005)، لمايكل كايتون ـ جونز، والفيلم الرواندي "إمبابازي، العفو" (2013) لجويل كاركزي، الذي يروي قصّة صديقين سابقين، مانزي وكاريميرا، تختلف حياتهما في الإبادة الجماعية، إذْ ينضمّ مانزي إلى قوّات الـ"هوتو"، بينما تتعرّض حياة كاريمارا للخطر لكونه من الـ"توتسي". بعد 15 عاماً، يُطلق سراح مانزي من السجن، ويحاول إصلاح ماضيه العنيف.
كان اليهود ضحايا عبر الزمن، وكُرّست هذه العواطف عبر السينما. ولعلّ أهمّ الأفلام تلك التي نقلت وعالجت الهولوكوست. من عبثية القدر أنْ يتحوّل الذين كانوا ضحايا تلك الجرائم إلى جلاّدين في فلسطين،
من النكبة إلى اليوم. من الأفلام التي رسّخت مظلومية اليهود وسرديتهم، التي اختاروها لتكون جداراً عالياً يحميهم، "لائحة شيندلر" (1993) لستيفن سبيلبيرغ، الذي تجري أحداثه في الحرب العالمية الثانية، عندما قرّر رجل الأعمال الألماني أوسكار شيندلر (ليام نيسون) أن يحمي لاجئين يهود وبولنديين من بطش النازيين، فأنقذ أكثر من ألف يهودي بإخفائهم في مصانعه في فترة المحرقة. نال الفيلم 7 جوائز "أوسكار" من أصل 12 ترشيحاً، واحتلّ المرتبة 9 في قائمة "المعهد السينمائي الأميركي" لأفضل 100 فيلم في التاريخ، والمرتبة 6 لتقييم "إنترنت موفي داتابيز" لأفضل 250 فيلماً في التاريخ أيضاً. استطاع الفيلم، بحِرفيّته ومعالجته أنْ يُكرّس السردية اليهودية في العالم، ويُرسّخ في ذهن كلّ فرد ما تعرّض له اليهود. وهذا إلى أفلامٍ أخرى عدّة ذهبت في هذا الاتجاه، ورسّخت هذا المفهوم.
أفلام أخرى عكست مفهوم الإبادة في متنها، وأعادت تجسيدها، كما حدث للصينيين من اليابانيين في "مذبحة نانجينغ" (1937)، التي تناولها "جون رابي" (2009) للألماني فلوريان غالينبيرغر، الذي مُنع عرضه في اليابان. والفيلم الياباني الصيني "زهور الحرب" (2011)، لزانغ ييمو.
هذا ما حدث في أفلام عن إبادات جماعية أصابت الأرمن وأبناء البوسنة والهرسك، والهنود الحمر، وغيرهم. لكنْ ما تمّ ارتكابه في العالم العربي فمُغيّب عن السينما العالمية، رغم قسوته وتوفّر كل عناصر الإبادة فيه.
لا يُمكن مقارنة الإبادات الحاصلة في العالم، والمُجسّدة سينمائياً، مع ما حدث للفلسطينيين عبر عقود من الزمن، لكنْ لم تتلقّفها السينما العالمية، وبقيت آهات آلاف الضحايا عالقة تحت التراب، تنتظر من يُعيد تجسيد آلامهم ولحظاتهم الأخيرة وهم يُصارعون الموت، ومحاصرون بقوالب متنوّعة من القتل، ينتظرون توزيع جراحهم التي عاشوها ودقائقهم الأخيرة وهم ينزفون ويتوجعون ويئنّون من الألم، بين الجمهور، حتى يُحس بما عاشوه، وبالتالي يضمنون بأنّ دماءهم التي سالت لا تذهب هدراً، لأنّ هناك من سيرفع صوته عالياً عندما يراها ويُحسّ بها سينمائياً، كي لا تتكرّر مرة أخرى. فهل ستحيي السينما الفلسطينية والعربية جراحها سينمائياً في المستقبل؟