جثث جثث جثث. نقلت وسائل الإعلام عن مُقرّرين في الأمم المتحدة، أنّ قوات الاحتلال الإسرائيلي ترتكب إبادة جماعية ضد الفلسطينيين في قطاع غزّة. قدّمت القنوات الفضائية الغربية إبادة الشعب الفلسطيني دليلاً على دفاع إسرائيل عن نفسها. من يملك الكاميرا والميكروفون، يُحدّد مَن الضحية ومَن الجلاد على شاشته. على الأرض، في غزّة، يقاتل الآن فلسطينيون ضد جيوش مختلفة بذريعة البحث عن رعايا هذه الدول. يبدو أنّ هناك "مليشيا فاغنر"، بطبعة أميركية، تعمل في القطاع. تحوم حول غزّة الآن حاملات طائرات وصواريخ وأقمار صناعية، هدفها حماية إسرائيل من "حماس" التي تنشر معلومات "خاطئة"، بحسب الرئيس الأميركي جو بايدن الذي يدعم كاميرات قنوات بلده بالتصريحات اللازمة.
هذه إبادة مُصوّرة "على المباشر"، بلمسة تزوير الوقائع. لكنّ وسائل الإعلام المُضادة تتقوّى. صرّح سعدي بركة، وهو حفّار قبور في غزّة: "أمضيتُ حياتي في مهنة حفر القبور، وما نشهده حالياً لا يُقارن بكلّ ما مضى، إلى درجة أنّي لا أستطيع النوم والأكل لكثرة الأطفال الذين دفنتهم". لم يعد يكفي تهجير الفلسطينيين. يجب قتلهم. هذا الحلّ الجذري الذي يعلنه اليمين الإسرائيلي، ويُنفّذه كلّ الطيف الإسرائيلي. للصهيونية كينونة واحدة.
بعد ثلاثين سنة على توقيع اتفاقيات أوسلو، بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل، ينكشف أنّ الاتفاقيات لم تُحرّر العرب المعتدلين من عبء القضية الفلسطينية، للانتقال إلى التطبيع الشامل. هذا أعاد مسلسل القضية الفلسطينية إلى نقطة الصفر. عاد الشرق الأوسط القديم. على الأرض، خراب ودم وشهداء. أطفال ورجال ونساء. بشاعة تُسبّب غصّة في الحلق، وتجمّد الدمع في العيون. دويلة ميكروسكوبية تعيث فساداً في منطقة بكاملها. السبب؟ لأنّها دولة صغيرة في حضن إمبراطورية تعتبرها ولايتها الـ51. إنّها بيدق صغير في يد قوّة عظمى.
كانت مفاوضات السلام الماراثونية، منذ عام 1991، وسيلة لفرض الحلول الإسرائيلية المدعومة أميركياً. كان يُراد لها أنْ تنهي الصراع قبل موت ياسر عرفات، لأنّه المؤهّل، كزعيم تاريخي لمنظمة التحرير، أنْ يوقّع على هذا السلام، الذي سيسمح لإسرائيل بالاندماج في الشرق الأوسط "الجديد". حالياً، رجع الشرق الأوسط القديم، بطريقة أشدّ دموية مما سبق. لذلك، تتولّى الإمبراطورية حماية ولايتها، بإبادة شعب آخر.
لا تستطيع دويلة صغيرة، تتموقع في وسطٍ جيوسياسي كثيف السكّان ومعاد، أنْ تشنّ حرباً وحدها. لذلك، تتولّى الإمبراطورية المهمة. في التاريخ، تتقاطع الإمبراطوريات في سلوكيات معينة، منها اقتراف مجازر ضد الأهالي، أي السكان الأصليون. الإبادة عمل إمبراطوريات. هذا ما فعلته الإمبراطوريات البرتغالية والإسبانية بـ90 في المائة من الهنود الحمر، في القرن الـ17، والفرنسية في الجزائر عام 1840، والسوفييتية في دول البلطيق عام 1946، كما في "عند الغسق" (2020) للّيتواني شاروناس بارتاس. فيه، طبّق الجيش الأحمر طريقة خاصة للبحث عن المشتبه بهم: يُشعل النار في البيوت، فيخرج كلّ من فيها، ثم يقتلهم.
في السينما الأميركية، تميّزت جُلّ أفلام الوسترن، حتى سبعينيات القرن الماضي، بعنف شديد، وإنكار تامّ للهنود الحمر، الذين قُتلوا كالذباب، من طرف الرجل الأبيض، الشجاع في القتال. كانت أفلام جون فورد أفضل مثل على ذلك.
لا تقدّم السينما العربية أفلاماً عن الجرائم المرتكبة في البلدان العربية. لا توجد إبادات عربية مُصوّرة، لأنّ من يملك السلاح يُطلق النار، ولن يسمح للكاميرا أنْ تقف قبالته. سيُسدّد على الكاميرا أولاً. لن تتمكّن أي كاميرا من نقل حالة الضحية في لحظاتها الأخيرة. مثلاً: قُتل 250 ألف جزائري في العشرية السوداء (1991 ـ 2001)، و300 ألف شخص في دارفور، غرب السودان (2003 ـ 2008). في بداية نوفمبر/ تشرين الثاني 2023، قُتل 700 شخص هناك. في هذا الجو، يهرب الجميع للنجاة بحيواتهم. هذه إبادة ممتدّة. مع الزمن، تمّ التطبيع مع الرعب في السودان، لكثرة مُشاهدته. صار الموت مجرّد صورة. لكنْ، هذه إبادة جماعية متكرّرة، لا تحظى بتغطية إعلامية كافية.
في الجزائر، جدلٌ حول تصوير مجازر في فرنسا عام 1945، ولا أمل في تصوير ما جرى بعد عام 1991. صوّر المخرج الفرنسي كزافيه بوفوا فيلماً عن مقتل رهبان "دير تيبجرين" (1996)، "رجال وآلهة" (2010). ما يُسمع عن جرائم الإبادة رهيبٌ. لكنّ الكاميرا عينٌ لا أذن. تريد الكاميرا أنْ ترى، وهذا يمنعه القتلة.
هناك مشكلة أخرى: صوّر توفيق صالح "المخدوعون" (1972) في سورية، وليس في بلده مصر. مُنع مخرجون عرب كثيرون من تصوير أفلامٍ عن فلسطين، لأنها سبب للتحريض السياسي الداخلي. سبق لناجي العلي أنْ رسم كاريكاتوراً لأب عربي يمنع ابنه من مشاهدة أطفال الحجارة على التلفاز. هذا على صعيد الرقابة. أما على صعيد الكلفة، فلن تستطيع السينما إعادة تجسيد تلك الجرائم. لن يتمّ أبداً توثيق الجرائم والكشف عنها وتقديمها إلى العالم فنياً، لأنّ الجلاد يخاف من الكاميرا ويكسرها، قبل بدء مشروعه الدموي.
لن تكون هناك أفلام عن هذا. لا يملك المخرجون العرب ميزانيات لتصوير الحروب. لا تريد الحكومات العربية تمويل أفلامٍ، تكون وسيلة تحريض سياسي. حتى الضحايا يسكتون. حجم الرقابة والخوف من الانتقام مهول. بمجرّد أنْ تضع كاميرا أمام شاهدٍ، يخاف الشاهد فيتلعثم ويسكت.
المجتمعات الممتدة من كازابلانكا إلى جاكرتا عاجزة عن محاربة الإمبراطورية الأميركية. هذا صرّح به أنور السادات وهو ينزف، بعد أن قَبِل بوقف إطلاق النار عام 1973، كي لا يُدمِّر جيشه وبلده من أجل غزّة. تصرّف السادات كرئيس دولة قومية، لا كزعيم أمّة. اقترح على من يُزايد عليه أنْ يتفضّل. هذا العجز عن الحرب سبب التطبيع، الذي يُطبِّل له العربُ المعتدلون، بهدف جعل إسرائيل مقبولة لدى الرأي العالم العربي.
حتى الحرب الحالية لن تغيّر هذا. هذه حرب استيطانية، لا عرقية أو دينية. المطلوب إفراغ الأرض من سكّانها. أميركا تحارب من أجل إسرائيل، بالوكالة، وتُركّز على قتل الأطفال لتخويف الناس. هذه جرائم حرب، قانونياً وأخلاقياً. لكنْ، لن تجري محاكمة بيدق الإمبراطورية.
في 17 نوفمبر، أعلن مسؤول فلسطيني في غزّة التالي: "لا نستطيع تحديث حصيلة الضحايا مع تزايدهم بالمئات يومياً". من لم يمت، سيجوع ويهرب. سيلجأ. للجسد البشري حدوده. حينها، لا تستطيع مصر إغلاق الحدود ضد الهاربين من الموت. هدف حرب الإبادة التهجير، وتستحق أنْ تُصوَّر. لكنْ، من يسمح ويُموّل؟