لا يمكن صنع فيلمٍ عن المذابح البشرية والإبادات، على تنوّع أسبابها، من دون مذابح وإبادات وموت عميم في الواقع. فالضحايا جُزِّر بهم وأُبيدوا، وانتهى الأمر. هذا، بحدّ ذاته، سبب مُحبط لولوج عالم الفن، عدا عن عالم السينما الذي يحكي عن الحياة، لا عن الموت.
ربما كانت أفلام الأكشن الأميركية، انطلاقاً من أفلام رعاة البقر وليس انتهاء بأفلام العصابات والحروب الرامبويّة، تمهيداً منطقياً لتوطين هذا النوع من الموت (البصري)، بجعله عابراً، وليس حدثاً جللاً، يستوجب التوقّف والمساءلة. فالانحياز إلى القاتل مضمون، طالما تمّت شيطنة القتيل مُسبقاً، وهذه قاعدة وضعتها أفلام الأكشن موضع التنفيذ، ما يضع أفلامَ رصدِ المجازر كمادة بصرية (فيلمية) قابلة للتشكيك، بحسب موقع المُباد من الصورة المسبقة (Image)، لتصبح الحكاية بمجموعها (حكاية المجزرة) قابلة للأخذ والردّ.
بالتالي، تذبذب موقع المتلقّي، وهو الأهم، بين مُصدّق ومُنكر، فأفلام رصد المجازر والإبادة تستهدف مباشرة موقف المتلقّي الذي لا يعرف عنها شيئاً، أو ربما القليل، ليُمرّر معلومات هذه الأفلام، عبر "فلتر" ثقافته المجتمعية أولاً، ثم "فلتر" قناعاته الشخصية، ليتّخذ موقفاً "قد" يُحدث فارقاً في يوم من الأيام. هذا الموقف لا يُمكن أنْ يكون ذا معنى إلّا في المجتمعات الحديثة حصراً.
قابلية التشكيك الآنفة تُحيل هذه الأفلام إلى الوثائق، مهما كانت حكائيّة، أو حتى واقعية. فالواقع وحده لا يكفي من دون أنْ يكون موثّقاً، بوسائل التوثيق الأحدث، والمجازر حوادث فوق واقعية، تحتاج إلى إثباتات كواقعة قضائية، يُمكن أنْ تتحوّل بعد عرضها إلى جرعةٍ ثقافية في مكان ما.
أفلام كهذه، لا يُمكنها خذلان مُشاهدها، بسبب خلل توثيقي، لأنّها ستفقد القضية التي تخدمها، والقضايا هي العمود المؤسّس في صناعة هذه الأفلام. يعني ذلك، أنّ هذه الأفلام لا تصنع من أجل السعادة والترفيه، ولا للتأمّل في الوجود الإنساني. وعلى الرغم من اعتمادها الوثيقة، فإنها لن تتحوّل إلى دليل جنائي في محكمة. إنّها تصنع فقط كي لا تتكرّر المآسي، وكي يضغط أعضاء المجتمعات الحديثة على حكوماتهم، لإيجاد وسيلة لمحاسبة المسؤولين عن فظائع كهذه.
عملياً، ليس معقولاً صنع أفلام تعبوية تدعو إلى الثأر، بمعنى مجزرة بمجزرة، وإبادة بإبادة. فالمسألة هنا محاولة إزاحة أفعال كهذه عن مستقبل الحياة البشرية، بفعل ثقافة حضارية فعليّة لا تُعيدنا إلى أفلام الأكشن ورعاة البقر الأميركية، خصوصاً إلى سردية إبادة السكّان الأصليين التي صنع عنها مارتن سكورسيزي فيلمه الأخير "قتلة زهرة القمر" (Killers of the Flower Moon) الصادر أخيراً.
لطالما تبنّت أفلام المجازر والإبادات وجهة نظر المستضعفين، ممن لا يمتلكون فرصة الدفاع عن أنفسهم، كمحاولة لمعرفة حقيقة ما جرى، حيث تبدو مسألة المظلومية واضحة جداً. فشرعة حقوق الإنسان حدّدت معايير الظلم والاعتداء على الحقوق، كما حدّدت المسؤوليات في هذه الكوارث. لكنْ، قلّما جرت محاسبة المسؤولين عن ذلك، والمُنفّذين، فهم مأمورون لا يتحمّلون مسؤولية جنائية. وإذا أضفنا عامل الزمن والتقادم، لا تبقى لهذه الأفلام من فعالية حقيقية إلا بين جمهور يعرف ويتبنّى حقوق الإنسان كممارسة تُنظّم حياته في "مجتمعه" أولاً.
بالتالي، نحن أمام مأزق حقيقي في ما يخصّ السينما العربية وهذا النوع من الأفلام، لأنها تُسقط جمهوراً من حسابها سلفاً. جمهورٌ لا حول له ولا قوة، ولا وزن في تغيير التوجّهات المستقبلية للمجازر والإبادات. والأمثلة تشحّ في هذا المقام، إلا في الحالات العمومية التي يتّفق الرأي الإعلامي حولها.
لا تبدو السينما العربية على علاقة جيدة مع هكذا نوع من الأفلام. فمنذ "كفر قاسم" (1975) للّبناني برهان علوية، قلّما انتبهنا إلى وجود هكذا إنتاجات، إلا في سياق أفلام تلفزيونية وثائقية، وإعلامية إلى حدّ بعيد، مُنتجة من محطّات تلفزيونية عربية، أو مموّلة من منظّمات حقوقية عابرة للدول.
المهمّ في هذا المقام ملاحظة العلاقة الواهية للجمهور العربي مع هذه الأفلام، فهذا الجمهور يعتبر نفسه الضحية، وليس بحاجة إلى زيادة مَداركه في هذا الموضوع، ما دام في موقع العاجز وعديم التأثير، إذْ لا يهمّه الوعي بهذه المواضيع، سوى الحذر من الوقوع ضحية هذه الكوارث ومشتقّاتها، بما يعني أنّ تأثير المجزرة الردعيّ يطاوله تماماً. بهذا، تفقد الفيلمية العربية من هذا النوع قدرتها على استثمار المعنى، وتتوجّه إلى الجمهور القادر على التعبير، وعلى الإقدام على إجراءات تُلبّي معنى الأفلمة، كجهدٍ مبذول من أجل الحقيقة أولاً.
نحن الآن أمام مجزرة حقيقية في غزّة. إبادة موثّقة بالزمان والمكان، عبر كاميرات التلفزة. فهل تحتاج الكارثة إلى سينما وأفلام، توثّق ذلك وتضبطه، وتُعيد نقله إلى جمهور رآه وتابعه لحظةً بلحظة؟
طبعاً نحن نحتاج إلى هذه الأفلام، ليس لإعادة توثيق الحدث والتذكير به، بل لتكريس هؤلاء الضحايا كبشرٍ، لهم الحق بالحياة والكرامة البشرية، وفقدوها على مذبح الهمجية الناقضة لحقوق الإنسان التي اصطلح عليها البشر. ضحايا لهم حكايا وتفاصيل وهموم وغراميات، تستحق الانضمام إلى الخبرات البشرية في سعيها إلى السعادة، في عالمٍ لا تنقصه المجازر والإبادات، بل العِبَر والقوّة الحقيقية لوقفها، حيث تضع الأفلام الجمهور أمام مسؤولياته الإنسانية.
لكنْ، في حالتنا العربية، لا تبدو هذه الأفلام ذات فائدة تُذكر، أقلّه في المدى المنظور. فالجمهور، في الحالة الفعلية، ليست لديه مسؤوليات بهذا المعنى، وبالتالي فالتوجّه الواضح لهذه الأفلام هو نحو الآخر الذي تأمل هذه الشرائط أنْ تدفع به إلى إحداث فارق ما.
من باب التأدّب نقول إنّ من السابق لأوانه تقرير ما إذا كان يجب ظهور أفلام حول غزّة أو لا. فهول المذبحة، وقُربنا من هذا الهول، لا يسمحان بتنظيرات مترفة الآن، والإعلام البصري لم يُقصّر من هذه الناحية. تحت أحجار غزّة المُدماة حكايات إنسانية كثيرة يجب عدم نسيانها، وفوقها جلّادون كثيرون يجب عدم نسيانهم أيضاً وإدخالهم إلى ذاكرة عليها دفن الماضي لصالح المستقبل. وإلّا، فما الحلّ؟