أفلام توثّق الإبادة: لا بدّ أنه الجحيم

26 نوفمبر 2023
في دير البلح (أشرف أبو عمرة/ الأناضول)
+ الخط -

عندما نفكّر في إفناء الشعوب، يتبادر إلى الذهن أشهر عمليات الإبادة الجماعية في التاريخ الحديث. فالحقائق، حين تصبح قديمة، تُنسى بسرعة، وإذا كانت الإبادة الجماعية "مثالية" في اكتمالها، فلن يبقى أحد ليتحدث عنها. واضحٌ أنّ أشهر ما تناولته السينما في هذا الخصوص الإبادات التي ضحاياها "الهنود الحمر" في أميركا الشمالية. بينما كان الحديث أقلّ عن الأستراليين الأصليين، والتسمانيين (ساكنو جزيرة جنوب غربي أستراليا، الذين أبيدوا بالكامل).

لكنْ، ليست هناك إبادة عرقية معروفة وأخرى منسية فقط، بل أيضاً الإبادة العرقية غير المرئية، الأكثر عدداً. الشعوب لا تختفي فقط بسبب انقراض العرق، أو إبادتها جسدياً بالقتل والأمراض المستوردة (هذا ينطبق عليه حرفياً مصطلح الإبادة الجماعية: إبادة سلالة وراثية)، بل تختفي أيضاً، من دون ضجة، وبتكتّم، لأنّ ثقافتها تحتضر، ليس من تلقاء نفسها، بسبب اهتراء أو تحوّل، لكنْ بضغط الظروف التاريخية، الخارجة عن السيطرة.

يُمكن قراءة النهاية الجنائزية لـ"ديرسو أوزالا" (1975)، تحفة أكيرا كوروساوا، على أنّها انعكاس للإبادة العرقية، رغم أنّ ثراءه لا يقتصر على هذا الجانب، الذي يُمكن وصفه بالتاريخي ـ السياسي. السيناريو اقتباس، مُخلص للغاية، للسيرة الذاتية التي كتبها فلاديمير أرسينييف (1872 ـ 1930)، المنشورة عام 1921 بالعنوان نفسه. أرسينييف ضابط طوبوغرافي في الجيش الروسي، وأحد المستكشفين في الشرق الأقصى السيبيري. ألّف عدداً من قصص الاستكشاف ذات الأهمية الجغرافية والطبيعية والإثنوغرافية الكبيرة. ظلّ مشهوراً بشكل خاص بهذه القصة الرائعة، التي تركّزت على صداقته مع شخصية غير عادية (اسمها عنوان كتابه)، تنتمي إلى شعب معروف بأسماء عدّة، منها "ناناي"، أحد مكوّنات المجموعة العرقية التونغوسية الكبيرة.

الراوي، في الكتاب كما في الفيلم، برفقة وحماية فرقة من الجنود، مسؤول عن وضع خريطة منطقة التايغا (الغابة السيبيرية الكبرى). تلتقي الفرقة، ذات مساء، في المعسكر، صياداً عجوزاً منعزلاً، رجلاً قصيراً جداً وممتلئاً (مكسيم منزوك، الذي لا يُنسى، والذي لم يكن في الواقع ناناي، لكنه كان ينتمي إلى مجموعة عرقية ناطقة باللغة التركية، في جنوب سيبيريا، وكان ممثلاً مسرحياً محلياً، وموسيقياً ومغنياً تقليدياً مشهوراً).
في البداية، كان الرجل العجوز، الخشن في أسلوب حياته ومعاملته، موضع سخرية من الجنود. لكنّه أذهل أرسينييف سريعاً بمعرفته التي لا تُضاهى بالمنطقة، ما سمح له بالعيش بمفرده في بيئة طبيعية، حيث خطر الوحوش البرية (دببة ونمور، خاصة). وهذا لا شيء، مقارنةً بعنف المناخ المتجمّد في الشتاء، والتهديد المستمرّ بضياع معالم الطرق في الغابات الشاسعة.

يحصل ديرسو أيضاً على احترام الجنود، بفضل مهاراته في الرماية، وقبل كلّ شيء، على تعاطف الجميع، الذين يكتشفون تدريجياً إنسانيته العميقة (تنعكس تلك مثلاً في عنايته بأنْ يترك خلفه، في الملاجئ الفرعية حيث يمضي الليل، أشياء أساسية، إذا وصل رجل ضائع إلى هناك، واحتاج إلى مساعدة للبقاء على قيد الحياة).

يُقابل الفيلم الجنود الروس، وهم هنا في دور الغربيين. إنّهم شبّان شجعان، لكنّهم صاخبون وسطحيون، بالكاد يدركون عظمة الطبيعة السحرية، مع الصيّاد الصامت، والمنتبه إلى النباتات والحيوانات، وقارئ علامات الطبيعة والمناخ، والعائش في عالم تسكنه الأساطير، والجامع بين الحكمة والإنسانية. ما بين أرسينييف وديرسو، اللذين توحّدهما مخاطر يواجهانها معاً، أكثر من التعاطف والتقدير: صداقةٌ لا تتزعزع.

لكنْ، لا القصّة ولا الفيلم ينتهيان بهذه النهاية السعيدة المثالية تقريباً. أصبح ديرسو أكبر عمراً من أنْ يصطاد ويعيش بمفرده. ضعف بصره، ولم يعد مُطلق النار الذي لا مثيل له. يعرض أرسينييف أنْ يأتي معه إلى فلاديفوستوك، ليقيم مع عائلته. رغم إخلاص ديرسو، والترحيب اللطيف من زوجة أرسينييف الشابّة، وحماسة الابن الصغير لهذا الرجل الخارج مباشرة من رواية مغامرات، فإنّ التكيّف مستحيل. رجل التايغا ليس له مكان في المدينة. هناك حادثة كوميدية تسلّط الضوء على هذا: لا يفهم ديرسو أنّه يتعيّن شراء الحطب للتدفئة. بالنسبة إلى من عاش دائماً وسط وفرة كبيرة من الأشجار، وندرة في الأموال، هذا يُعدّ حقاً جنوناً غير طبيعي. لذلك، يقطع شجرة من حديقة البلدية للحصول على الوقود مجّاناً.

بسبب اكتئابه من حياة المدينة، يقنع ديرسو أصدقاءه بالسماح له بالعودة إلى الغابة. يُقدم له أرسينييف بندقية ممتازة، تعوّض دقّتُها جزئياً عن بصر الصيّاد العجوز، الذي أصبح أقلّ حدّة. بعد فترة وجيزة، يُعثر على ديرسو مقتولاً قرب خط عبر إيبيريا. ربما كان ضحية قطّاع طرق، استولوا على البندقية الثمينة، التي كانت محاولة أخيرة من صديقه لمساعدته، فباتت قاتلة. عندما جاء أرسينييف، بعد سنوات، لزيارة قبر ديرسو، لم يجده، إذْ تمّ بناء مدينة لقادمين جدد في موقعه.

سينما ودراما
التحديثات الحية

ما تظهره هذه النهاية القاسية، نهاية شعب. بعد وصول القطار إلى المكان، وبات الاختلاط السكاني أكثر كثافة، فَقَد ديرسو عائلته، ليس لأنهم قُتلوا (كان الغزو الروسي للشرق الأقصى أقلّ وحشية، بالتأكيد، من الغزو الأميركي للغرب الأقصى)، بل بسبب وباء الجدري، الذي جلبه المهاجرون معهم. كما لم تعد الغابة مكاناً يجتازه الصيادون الأصليون فقط، الذين عرفوا منذ قرون استغلال مواردها بحكمة، لكنْ أيضاً الصيادون غير الشرعيين، الذين يسعون إلى تجميع كميات كبيرة من الفراء المُربح والمطلوب. لم يعد ممكناً، في هذه البيئة المضطربة، أنْ تعيش كصياد ناناي، كالبدو الرُّحّل. الحياة الحضرية فُرضت، ويمكن افتراض أنّه حتى لو لم يفْقِد ديرسو عائلته، فإنّ أطفاله لن يرثوا معرفته بالغابات، التي لا نهاية لها.

هناك أيضاً فيلم من ياقوتيا (جمهورية ساخا، الواقعة خارج الدائرة القطبية، الأبرد في العالم المأهول)، بعنوان "لا تدفنني بدون إيفان" (2022) للمخرجة ليوبوف بوريسوفا. رغم أنّه أكثر فلسفة، وحتى ميتافيزيقية، لا يخلو من التشابه مع رواية كوروساوا الكلاسيكية.

هنا أيضاً رحلة بعيدة عن الحضارة، تجمع فناناً روسياً، هو عالم إثنولوجيا وابن كاهن أرثوذكسي مُبشّر، نشأ في بلاد ياقوت، بمواطنٍ محلي يُكنّ له عاطفة عميقة. مُشبعٌ بتقاليد هذا الشعب البعيد. في رحلتهما بالعربة، يعبران بلدة يسكنها مستوطنون روس فظّون، يحتقرون السكّان الأصليين، ويعاملونهم بوحشية، وضباط شرطة ضيقي الأفق، وقرى دمّرها الجدري (إلى درجة أنّه لم يبق سوى ساكن واحد)، وعائلة وافقت، بعد تردّد كبير، على إخراج زخارف الأجداد من الصندوق لترتديها فتاة المنزل الصغيرة، التي كانت قبل دقائق قليلة فلاّحة ترتدي ملابس العمل. ظهرت تلك فجأة أمام عيون عالم الأعراق المذهولة، في روعة الأميرة الأسطورية. مشهد مُذهل، يُمكّن المرءَ من أنْ يدرك، في لحظة، التفوّق الجمالي الهائل لـ"المتوحّشين" على "المتحضّرين".

لكنْ، ألم يقم عالم الأعراق ببعثته (عام 1910، في الوقت نفسه تقريباً الذي كانت فيه استكشافات أرسينييف في الشرق الأقصى) بهدف جمع الأدوات والملابس والمجوهرات التي لن تُستخدم قريباً، والتي لم نعد نصنعها؟ تلك التي ليس لها مستقبل سوى تدميرها، أو حفظها في متحف، بعيداً عن الحياة اليومية؟ بغض النظر عن حسن نيّته الحقيقية، فإنّ مشروعه نفسه يُعدّ علامة على أنّ هذه الثقافة سوف تموت.

لم تكن هناك إبادة جماعية للناناي والياقوت. بين الشعوب السيبيرية، كما هو حال مناطق أخرى من العالم، يمكن أنْ نشهد محاولات لإحياء التقاليد، أو إعادة تأكيد الهوية. لكنْ، عندما كانت الهوية حية، لم تكن بحاجة إلى تأكيد، بل كانت موجودة بكل بساطة. ومهما كان مستقبل هذه المحاولات، فالقرن العشرين سيكون في كلّ القارات، وفي الغرب نفسه، قرن اختفاء الثقافات الشعبية، واختفاء الشعوب، ولن يكون هناك "حوار الثقافات"، بل "محو الثقافات"، وتقليل من شأن أساليب حياة وفكر.

تسترعي الإبادة الجماعية القاتلة كلّ الاهتمام، لأنها تثير صحوة الضمائر. ولكنْ، يُمكن رؤيتها على أنّها ليست سوى الشكل الدموي لظاهرة أكثر عمومية: محو الشعوب.

في فلسطين نفسها، إبادة ومحو. أين شعب شجرة الزيتون، الذي ربما كانت ثقافته وتقاليده التي يبلغ عمرها قروناً أو آلاف السنين، الأغنى في الشرق الأوسط العربي؟ (للإطّلاع، يُمكن قراءة الدراسات القديمة والرائعة لتوفيق كنعان (1882 ـ 1964)، رائد الإثنوغرافيا الفلسطينية). حياة الفلسطيني المعاصر، الحضري والموحد، لم تعد ربما تتميّز عن حياة أي شعب في العالم، إلا بما يفتقر إليه من حرية، وليس بما يمتلكه من خاصيّة، يُفرض عليه محوها.

هل هذا العالم الضائع، الذي استحضره إيليا سليمان في "لا بُدّ أنها الجنة" (2019)، في شخصية المرأة المزيّنة باللباس التقليدي، التي تمرّ كالحلم في حقل زيتون، شخصية تشبه الحلم، وذكرى لا تُنسى، ومع ذلك ذهبت؟ اليوم، مرة أخرى (لكنْ، هل توقف ذلك؟)، يُباد الفلسطينيون ليس فقط جسدياً، بل بمحاولات تدمير أسلوب حياتهم وفكرهم، كسكّان الأرض القدامى.

المساهمون