ديكور يُعيد بناء الجغرافيا الشاهدة على المجزرة

26 نوفمبر 2023
في رفح (محمد عبد/ فرانس برس)
+ الخط -

ليس سهلاً إنجاز أفلامٍ سينمائية عربية، يتناول مخرجوها موضوعاً حاضراً في تاريخ شعوب وأوطان ومجتمعات، والعرب جزءٌ أساسيّ منهم: الإبادة. والمفردة، إذ تُحيل إلى جُرمٍ يكون مجزرة أيضاً، تقول إنّ شعوباً بكاملها معرّضةٌ، في فترات مختلفة من الزمن، لإبادات، بعضها "ناجحٌ" في تحقيق المُراد من الجريمة، وبعضها الآخر عاجزٌ، إلى الآن، عن تغييب مطلق للمعرَّض للإبادة، مع أنّ التغييب مستمرٌّ، جسدياً وثقافياً وتراثياً أيضاً.

القول إنّ هناك صعوبة، إن لم تكن استحالة، في إنجاز أفلامٍ عربية عن مجازر بحقّ عربٍ، مُكرّر في آراء عدّة لنقّاد سينمائيين، يُعيدون سببها إلى انعدام ميزانيات إنتاجية، وتشدّد رقابيّ (أمني، اجتماعي، ثقافي، سياسي، ديني ـ طائفي... إلخ) يحول دون استعادة فتراتٍ من التاريخين القديم والمعاصر، منعاً (بحسب المتشدّدين الرقابيين) من "إثارة" حساسيات، فالماضي ماضٍ، والراهن مُصابٌ بأعطاب، والمستقبل يكاد يكون غير مرئيّ كلّياً.

لكن، أيكون التشدّد الرقابيّ وانعدام الميزانيات، فقط لا غير، سببين أساسيين؟ أم أنّ هناك ما يستدعي نقاشاً يُكمِّل نقاش السببين هذين؟ مهنياً، يحتاج فيلمٌ واحدٌ، يستعيد مجزرة ـ إبادة حاصلة في زمنٍ سابق، إلى ميزانية كبيرة، فالحاجة مُلحّة إلى ديكور يُعيد بناء الجغرافيا، أو بعضها على الأقلّ، الشاهدة على المجزرة ـ الإبادة. وهذا يحتاج، بدوره، إلى كومبارس، يكونون امتداداً لشخصيات أساسية. هناك أيضاً الأزياء، والآليات المستخدمة، والأسلحة المستعملة. قبل ذلك، أليست هناك حاجة إلى بحثٍ في الأرشيف والوثائق، يكون علمياً ودقيقاً قدر المستطاع، كي يُكتب نصّ (ينبثق منه سيناريو) متين وذو مصداقية تاريخية (قدر المستطاع، مُجدّداً)، تحول (المصداقية) دون وَسْم النص بخطابية وشعاراتية وقول مباشر، يُسيء إلى الحكاية الأصلية، وإلى السينما واشتغالاتها المختلفة؟

في المقابل، يُدرك عاملون وعاملات في صناعة السينما أنّ هناك، دائماً، مَخارج تمنح الراغب أداوت أخرى لقول شيءٍ منه إزاء مجزرة ـ إبادة، من دون حاجة إلى ميزانية كبيرة. أي من دون حاجة إلى إعادة تصوير المجزرة ـ الإبادة، مع أنّ لتصويرٍ كهذا تأثيراً أكبر وأهمّ، وإن يرتكز، في جزءٍ أساسي منه، على إثارة انفعال ومشاعر.

تغييب المجزرة ـ الإبادة يُفترض به أن يُنتج نصّاً أقوى وأعمق، وأقدر على إثارة انفعالٍ ومشاعر من دون ابتذال وسطحية، إن يُكتَب (النص) بمزيج بين واقع وحقائق، وابتكار ما يجعل المُشاهد يشعر بثقل الجريمة من دون أن يراها مباشرة. أي أن يُحرِّض النصّ السينمائي على تصوّر الجريمة، من دون تقديمها مباشرة (لحظة ارتكاب الفعل الجُرمي، الجثث، الدمار، الحرائق... إلخ).

في أفلام وثائقية أجنبية، تغيب الصورة المباشرة للجريمة (باستثناء صُور فوتوغرافية، في أفلام من دون غيرها)، التي (الصورة) "تظهر" في كلام مرتكبي الجريمة، و/أو ضحاياها الناجين/الناجيات منها. كلامٌ يُقال، لكنّ براعة الإخراج تُتيح مُشاهدة تبدو كأنّها مباشرة لجُرمٍ، يفوق الخيال غالباً. مثلٌ أول: "فعل القتل" (2012) و"نظرة الصمت" (2014) للأميركي البريطاني جوشوا أوبنهايمر. الأول يستعيد "حركة 30 نوفمبر/تشرين الثاني 1965 في إندونيسيا" (6 جنرالات في هيئة الأركان العامة العليا في القوات البرّية، في الجيش الإندونيسي، يُعدمون، ثم تبدأ المجازر، التي سيبلغ عدد ضحاياها نصف مليون إندونيسي)، عبر لقاءات مع مرتكبيها. الثاني، المنشغل بالمجازر نفسها، يُمهِّد للقاء أفراد عائلة مع رجلٍ سيكون قاتل شقيقهم. مثلٌ ثان: "مَقَاتل" (2005)، للقمان سليم ومونيكا بورغمان وهيرمن تيسن. لقاءات مع مقاتلين سابقين في ميلشيا القوات اللبنانية، مُشاركين في مجزرة صبرا وشاتيلا (16 ـ 18 سبتمبر/ أيلول 1982)، ونتيجتها نحو 3500 قتيل فلسطيني ولبناني.

سينما ودراما
التحديثات الحية

في المثَلَين هذين، تظهر المجزرة ـ الإبادة في تفاصيل، ليست أقلّ أهمية من "متن الحكاية": نبرة صوت، نظرة عينين، حركة جسد (أو، كما يُقال: لغة الجسد)، الكلام الذي تقوله الشخصيات، وكيفية التعبير عن فعلٍ جُرميّ، إن يكن جُرمياً بالنسبة إليهم. بدوره، هذا غير سهلٍ. العثور على "قتلة" أحياء، بعد أعوامٍ طويلة على ارتكاب الفعل الجُرمي، دونه عقبات. أمّا العثور على بعضهم، أقلّه، فإنجاز، يليه إنجاز ثان: الاعتراف، أو البوح، بالفعل الجُرميّ أمام الكاميرا. هذا حاصلٌ، والحاصل شهادة "موثّقة" بألسنة مرتكبين وفاعلين، مع التنبّه إلى ما يقولون، والأهمّ إلى كيفية قوله.

فما يُقال، في لحظة اعترافٍ كهذه، ربما يُصاب بأعطابٍ، منها التالي: الارتباك أمام سطوة الكاميرا، والكاميرا ـ في الوقت نفسه ـ منبر اعتراف، والاعتراف غير سهلٍ البتّة، خاصةً إن يكن علناً. "غرفة الاعتراف"، مسيحياً، تمنح المُعتَرِف خصوصيةً، تحصّنه من كلّ ارتباكٍ وهيبة، واختيار دخولها ذاتيّ بحت. بينما الكاميرا تأتي إلى من يُفترض به أن يعترف، كي يعترف، رغم أنّ للفرد حينها "حرية" اتّخاذ أي قرار يرتاح إليه: هل يُكمِل مشروع الفيلم، فيعترف؛ أم يتنصّل منه، فينسحب؟ إن يُكمِل المشروع، هل يقول "كلّ" شيء؛ أم يتحايل فيقول الحكاية، لكن مواربةً، ومن وجهة نظره هو، أو بفضل "بقايا" ذاكرة؟ ماذا عن المسافة الزمنية بين الفعل والاعتراف: إلى أي مدى لا يزال المُعتَرِف متمكّناً من سرد "حقائق" و"وقائع"؟ ألن تكون المسافة تلك حاجزاً أمام قدرة الذاكرة على تذكّر "كلّ شيء"، أو بعضه على الأقلّ؟

تساؤلات كهذه غير معنيّة بفذلكةٍ وتصنّع، بقدر ما ترغب في تنقيبٍ نقديّ أعمق في الذي يُقال، مع اهتمامٍ بالغٍ في كيفية القول. التجربة الذاتية أساسية ومهمّة، كما الاعتراف، الذي يُفترض به أن يؤدّي إلى نوع من تحرّر واغتسال. الفعل الجُرمي، إن يكن جريمة قتل أو مجزرة أو إبادة، يؤثّر في مَن يرتكبه، والتأثير قاسٍ، رغم أنّ الفعل جُرميّ، وعند ارتكابه لن يكون الفاعل سويّاً كلّياً. كما أنّ الكاميرا مُثيرة لرهبةٍ، يصعب التعامل معها (الكاميرا)، لرهبتها، تماماً كالاعتراف.

لذا، يجهد السينمائي/السينمائية في إيجاد معادلاتٍ ضرورية بين إقناع الفرد، على أهمية الاعتراف، ودفعه، بفضل ثقةٍ ما يجب إيجادها بين الطرفين، إلى القول والبوح والتذكّر، وإلى امتلاك حدٍّ معقول ومقبول من المصداقية. فالجريمة، إن تكن مجزرة أو إبادة، تحول غالباً دون قول وبوح، أي دون اعتراف. لكن، عندما يخطو الفرد أول خطوة باتّجاه الكاميرا، أي كرسيّ الاعتراف، يتخفّف من عبءٍ كثيرٍ.

تساؤلات كهذه منبثقةٌ من محاولة فهم كيف يُمكن لفردٍ، يرتكب جُرماً أو يُشارك في ارتكابه، أن يقول ويبوح، أي أن يعترف. أفلامٌ، كالمذكورة أعلاه، تؤكّد أنّ إنجاز سينما من هذا النوع غير سهلٍ أبداً. لكنّ إنجازها يعني أموراً كثيرة، أبرزها أنّ الجُرم موثّقٌ بكلام مرتكبها، وأنّ الاعتراف ضروريّ، وأنّ مواجهة الكاميرا/كرسيّ الاعتراف لن تكون أقلّ إرباكاً وتوتّراً من مواجهة الذات، إن لم تكن المواجهةُ نفسها مواجهةَ ذاتٍ.

المساهمون