يستمرّ العدوان الوحشي للجيش الإسرائيلي على قطاع غزة، والإمعان في قصف منهجي، أودى بأرواح آلاف الضحايا، غالبيتهم العظمى نساء وأطفال، رغم تنديد ضمائر عالمية حيّة، وحديث بعضها عن وضع أصبح قريباً من تطهير عرقي وإبادة جماعية.
انبرت السينما، خاصةً الوثائقية، لمحاولة تمثّل هذين الثيمتين العصيبتين، رغم التحدّيات العويصة التي تضعها أمام السينمائيين. فالجرائم الشنيعة في حقّ الإنسانية، تعذيباً وتنكيلاً وقتلاً، شكّلت معضلة حقيقية، نظراً إلى الإشكالية الأخلاقية التي تطرحها. لجاك ريفيت جملة، كتبها في مقالةٍ نقدية عن "كابو" (1961) لجيلّو بونتيكورفو: "لو تذكرون في "كابو" مشهد انتحار ريفا، حين ترمي نفسها على الأسلاك الشائكة المكهربة: الإنسان الذي يُقرّر، في تلك اللحظة، أن يقوم بحركة ترافلينغ إلى الأمام، ليؤطّر جثّتها من زاوية منخفضة، مع الحرص على أنْ يضع يدها المرفوعة في ركن الإطار النهائي، هذا الإنسان لا يستحقّ سوى احتقار عميق". هذه الجملة تبقى أبرز مجسّد لمسؤولية المخرج، ليس فقط إزاء ما يُصوّره، بل، ربما خاصّة، كيف يُصوّره.
كيف نتمثّل ما لا يمكن تصوّره من فرط فظاعته؟ سؤال أرّق بال المخرجين الذين سعوا إلى تصوير قصص الإبادة الجماعية في تاريخ البشرية، فاختلفت مقارباتهم، لتلافي السقوط في كلّ تصوّر، ربما ينجم عنه تطبيعٌ معها، أو استغلالها لتحقيق جماليات غير مؤاتية. هذا ما واجه آلان رينيه، حين طُلب منه إنجاز فيلم عن إبادة الأبرياء في المعتقلات النازية في الحرب العالمية الثانية. بعد تفكير مُضن، كاد فيه يتخلّى عن إنجازه، اهتدى إلى حلّ لالتقاط فظاعة الحدث، لا القبض عليه لاستحالة ذلك، يتمثّل بالتأرجح بين صُوَر المعتقلات الوحشية بالألوان الطبيعية، بعد 10 أعوام على الجريمة الفظيعة، وصُوَر الأرشيف بالأسود والأبيض؛ وأصوات الضحايا، التي تُساهم في الحكي، وشعرية التعليق المُرافق لكاتبه جان كايرول، من دون تناسي الموسيقى التصويرية، فكان "ليل وضباب" (1956)، أحد الأفلام المرجعية في تاريخ السينما عن تمثّل الفظائع.
بُرمج الفيلم في مناهج العام الدراسي الثالث في التعليم الإعدادي في فرنسا، لإغناء الدرس عن الحرب العالمية الثانية، نظراً إلى فضائله البيداغوجية الكبيرة. وساهم في تغيير التصوّر السائد عن المعتقلات النازية، مُشكّلاً منعطفاً حاسماً أفضى إلى انعتاق الفيلم الوثائقي من سطوة المرئيّ، وانفتاحه على اللامرئي. إذ تمكّنت الكتابة فيه من جعل ما لا يمكن تخيّله متاحاً للخيال. السرّ يكمن، ربما، في محاولة التقاط طيف الحدث الماثل في الأماكن والشهادات. ذلك أنّ عناصر الوثائقي التقليدي تصبح عديمة الجدوى، لأن لا واقع هناك أصلاً. وحده المُتخيّل، المتأصّل في السينما، يمكنه فعل ذلك.
لكنّ الأمر يختلف عندما تكون هناك مادة فيلمية، أو صُور تُوثّق جوانب من الحدث، أو بعض ما نجم عنه. هذا حال المجزرة المنفّذة في 16 ـ 18 سبتمبر/ أيلول 1982 في مخيمي صبرا وشاتيلا للاجئين الفلسطينيين في بيروت، من مجموعات لبنانية تمثّل القوات اللبنانية وجيش لبنان الجنوبي، والجيش الإسرائيلي، مودية بمئات الضحايا (بلغ عددهم، بحسب بعض التقديرات، 3500 قتيل). وحشية القتل، باستخدام الأسلحة البيضاء، بمساهمة الجيش الإسرائيلي الذي حاصر المخيم، ووفّر الإنارة بالقنابل المضيئة، أفضت كلّها إلى صُور لا تُحتَمل مُشاهدتها لجثت الضحايا الأبرياء المتراكمة في أزقة المخيّم، خاصة الرضّع الذين استُهدفوا بوحشية لا تُطاق، ما أدّى إلى صدمة جماعية، أصابت الضمائر الحية في العالم بأسره. "مَقَاتل" (2005)، للقمان سليم ومونيكا بورغمان وهيرمن تيسن، وثائقي يتناول هذا الحدث بطريقة غير مُعتادة، لا تبتغي مقاربته بإعادة تركيب أحداثه بشكل تقليدي، بل بمنح الكلمة للجلاّدين، والغوص في الحالة النفسية والظروف المحيطة بإقدامهم على هذا الفعل الشنيع. توجّه يبدو، للوهلة الأولى، غير أخلاقي، لكنّه أبان عن فعاليّته في محاولة فهم وتمثّل أحداث كهذه، أكثر من مجرّد إظهار صور الجثث، خاصة أنّ المسافة التي يخلقها حديث الجلاّدين عن التفاصيل، بشكل متأنّ ومنفصل عن هولها، والإطار المعتم الذي وُضعوا فيه من المخرجين (من دون إظهار وجوههم)، يفلح في التقاط الطابع غير الآدمي الذي يستبدّ بمرتكبي هذه الجرائم.
في فيلمها المرجعي، المؤلَّف من جزئين، عن قصّة احتلال فلسطين، "فلسطين... قصّة أرض" (1997)، تتناول سيمون بيتون مذبحة دير ياسين، التي جرت في 9 إبريل/ نيسان 1948، في تلك القرية الفلسطينية (غربي القدس)، على أيدي مقاتلي المجموعتين الصهيونيتين "إيرغون" و"شتيرن"، وأودت بحياة نحو 300 ضحية، بينهم نساء وأطفال وعجزة. تورد بيتون هذا الفصل المأسوي في الذاكرة الفلسطينية، مُباشرة بعد صورة بالأبيض والأسود لبن غوريون مُحاطاً بجنود إسرائيليين، مع تبئير تدريجي على وجهه، والنظرة غير المطمئنّة التي تعلوه، وتعليق يوضح نيّته الانتقال إلى استراتيجية الإمعان في التقتيل، بغية إرهاب الفلسطينيين ودفعهم إلى هجر بيوتهم. تأخذ الصورة في التحوّل إلى الأحمر القاني، شيئاً فشيئاً، إلى أن تظهر "دير ياسين" بحروف حمراء قانية، على خلفية حمراء، ما يحيل إلى قتامة الصورة من هول الدماء المسفوكة. يبسِّط التعليق سياق المذبحة وحيثياتها، قبل أن يحلّ الصمت، لأول مرة في الشريط، أمام صُوَر جثت الضحايا المتوالية على الشاشة، في لفتةٍ ترنو إلى إسداء تحية لذكرى أرواحهم، والاعتراف بعجز أي تعليق على الإحاطة بفظاعة الحدث.
الرواندي كيفو روهوراهوزا حقّق، في أول تجربة إخراجية يخوضها سينمائي رواندي في بلده، فيلماً روائياً بعنوان "مادة رمادية" (2011)، فيه ثلاث قصص مرتبطة بمذبحة رواندا، التي قُتل فيها بين 800 ألف ومليون شخص "توتسي"، على أيدي أعضاء من الـ"هوتو"، عام 1994. يحكي الفيلم عن بلتازار، مُخرج شاب رواندي، يشتغل على فيلمه الأول، بعنوان "دورة الصّرصور". لكنّه لا يفلح في العثور على تمويل. جستين شابة بقيت على قيد الحياة مع أخيها إيفان، بعد نجاتهما من أحداث القتل المهول؛ ورجل يقبع في مشفى للأمراض العقلية. لا يُسمّي المخرج المجزرة، ولا يُحيل إليها مباشرة، لكنّه ينجح في تمثّل حالة العجز التي تستبد بالشهود عليها، فتكاد تعصف بعقولهم. كالمخرج الذي يقبع في غرفته غير قادر على إنجاز فيلمٍ، فيسرح في تتبّع مسار صرصور على الأرضية. الصراصير تسمية كان يطلقها أفراد "هوتو" على الـ"توتسي"، قبل المرور إلى "تحطيمهم". إنّه وازع نزع الآدمية عن الآخر، لتسهيل مهمة إبادته.
الجنون الذي أصاب العديد ممن نجوا من المأساة، بعد أنْ رأوها بعيونهم، يبدو في عينيّ المخرج المآل الوحيد الذي ينتظر المتمعّن في هول ما حدث. "حين تنظر إلى الهاوية، تنظر الهاوية بدورها في داخلك"، يقول نيتشه. "أردت أن أصوّر صدمة الضحايا ومرتكبي الجريمة. جرى التلاعب بالعديد منهم، ليُصبحوا قتلة. أردت أيضاً أن ألتقط الشعور الذي يتبع "اللّعنة! ما الذي حدث للتو؟"، والذي لم ننبرِ إليه بعد (...). أستخدم الاستعارات ليس فقط لأنّها أرخص، ولكن أيضاً لأنّي لم أرغب في تبسيط شيءٍ مُعقّد، مثل الصراع الذي شهد قيام الطلاب بقتل معلميهم، والأمهات بقتل أطفالهنّ، وما إلى ذلك. أردت أن أحمل إلى السينما تعقيد وحكمة الشعر الرواندي والأفريقي، رغم ما يُقال عن أنّ الأفارقة لن يستوعبوا ذلك، وهذا غير صحيح. لماذا لا تكون أفلامنا متطوّرة، مثل شعرنا؟" يُسرّ روهوراهوزا.
هذا كلّه ضروريّ لحثّ المُشاهد على نسج تصوّره العقلاني، الخاص به، إزاء حدث لاعقلاني، أي دفع المُشاهد إلى أنْ يُصبح شاهداً، بفضل الشعرية السينمائية، وهنا الأساس. فبحكم التباعد الزمني بين فترة الحدث ولحظة إنجاز الأفلام، لا يمكن لهذه الأخيرة ادّعاء تسجيل واقعية الحدث، إذ يصبح السعي إليها منافياً للصدق والواقعية.
في كتابها "أخلاقيات النظرة"، تنقل سيلفي روليه عن الفيلسوف جان ـ لوك نانسي قوله إنّ "الصورة لا تُصلِح فداحة موت الضحايا. إنّها تفعل أقلّ، وأكثر من ذلك في الوقت نفسه: تنسج تصوّر الغياب. الغائبون ليسوا هناك. هم ليسوا في الصورة. لكنّهم مُصوَّرون. غيابهم منسوجٌ في حضورنا".