كارلوس يوري سونينك (1/ 2): "افتُتنت بقصة رجل يعيش وحيداً في جزيرة"

15 نوفمبر 2024
سونينك وجائزة أفضل وثائقي طويل في "فيسباكو 2023" (أولمبيا دوميمون/فرانس برس)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- يروي فيلم "أومي نوبو: الرجل الجديد" قصة كيرينيو، الذي عاش معزولاً في قرية نائية بالرأس الأخضر لمدة 40 عامًا، مستخدمًا أسلوبًا حسيًا وجماليًا يجمع بين الواقع والخيال الشعبي.
- بدأ اهتمام المخرج كارلوس يوري سونينك بقصة كيرينيو أثناء عمله في قناة "تيليسور"، وقرر تحويلها إلى فيلم وثائقي رغم عدم وجود صناعة سينمائية في الرأس الأخضر، مستعينًا بزوجته ومدير التصوير.
- رغم التحديات المالية، بدأ سونينك التصوير، مكتشفًا لغة كيرينيو المتشظية، وحصل الفيلم على جائزة أفضل وثائقي طويل في مهرجان فيسباكو الأفريقي.

 

ينحو المخرج كارلوس يوري سونينك (الرأس الأخضر، 1976)، في جوهرته الوثائقية "أومي نوبو: الرجل الجديد (Omi Nobu)"، إلى أسلوب حسّي جذّاب، يحاكي شعور الحلم، ليحكي عن قرية نائية هجرها سكّانها منذ الثمانينيات الماضية بسبب أحداث مأساوية تَطيّروا منها. رجلٌ واحد، كيرينيو (76 عاماً)، رفض المغادرة، فعاش معزولاً زهاء 40 سنة. معزولٌ، لكنّه ليس وحيداً، كما يُصرّ سونينك، الذي صوّره بتناغمٍ تام مع الطبيعة الساحرة لشاطئ الرأس الأخضر (بحر، رياح، جبال بركانية تحفّها طرق متعرّجة، إلخ). تحكي أخت كيرينيو وراوية شعبية من قرية مجاورة على الشريط الصوتي (لا نراهما في الصورة) قصّة لقاء غير اعتيادي بين رجل وقرية شبحية، بلغة شعرية يختلط فيها الواقع بالمتخيّل الشعبي، وصُور تخطف الأنفاس بجمالها، تُدين بالكثير لموهبة مدير التصوير أريلسون ألميدا، وموسيقى مسكونة لهنريك سيلفا.

"الحياة عبارة عن حلم"، يسرّ كيرينيو بلغةٍ، يقول سونينك إنّها تبدو غريبة حتى بالنسبة إلى الكابوفيرديين، ممن يتقنون لهجة الكريول. فرادةٌ مطلقة تعيد الاعتبار إلى رابط مفقود بين الإنسان وقوى الطبيعة في العالم المعاصر، وتتفكّر في معاني الوجود والموت، وما يتبقّى من ذكرى الأرواح الراحلة، استحقّ عنها سونينك جائزة أفضل وثائقي طويل بعد عرضه الأول في الدورة الـ28 (28 فبراير/ شباط ـ 4 مارس/ آذار 2023) لـ"مهرجان فيسباكو الأفريقي للسينما والتلفزيون" بواغادوغو (بوركينا فاسو)"، قبل أنّ يحل بأكادير، في المسابقة الرسمية للدورة الـ15 (7 ـ 12 يونيو/ حزيران 2024) لـ"المهرجان الدولي للسينما الوثائقية (فيدادوك)"، التي منحته جائزة أفضل أول فيلم.

 

(*) هل تُخبرنا عن كيفية مقابلتك كيرينيو، وكيف ألهمك لصنع الفيلم؟

بدأت القصة في الواقع منذ ثماني سنوات. كنت أعمل في قناة "تيليسور" الأميركية الجنوبية مخرج تحقيقات، مدّة كلّ منها خمس دقائق، عن مواضيع فنية وثقافية من الرأس الأخضر. بعد فترة، شعرت، والصحافية المسؤولة عن الإعداد، بأنّنا استنفدنا تقريباً كلّ مواضيع جزيرة "ساو فيسنت"، التي كنت أعيش فيها. إنّها ثاني أهم جزيرة في البلد، ثقافةً واقتصاداً، بعد العاصمة سانتياغو. في مرّة، أخبرتني بأنّ هناك موضوعاً مثيراً للاهتمام في جزيرة "ساو نيكلاو" النائية، التي لم أكن أعرفها ولم أزرها من قبل، يتعلّق بقرى شبحية، أو خالية من السكان. هناك كثير منها في الجزيرة.

رغم أنّي كنت أعمل للتلفزيون، كان شغفي الحقيقي وتفكيري كلّه مشغُولَين بالسينما. لكنْ، بما أنّه لا توجد صناعة سينمائية في الرأس الأخضر، كنت مجبراً على التأقلم مع الظروف. خمّنت فوراً أنّ هذه فكرة جيدة لفيلم سينمائي. واصلت الحديث مع الصحافية، التي أخبرتني بأنّ هناك قرية يقطن فيها رجل يبلغ من العمر 76 عاماً، يعيش بمفرده منذ 40 عاماً. بعدها بوقت قصير، تركت فريق البرنامج. مرّت سنوات، وانتقلت إلى سانتياغو، وصنعت فيلماً وثائقياً، لكنّي كنت لا أزال أفكر في تلك القصة.

 

(*) إلى ذلك الحين، لم تقابله.

كلا. لم ألتق به. في الواقع، أردت صنع فيلم، لكنّي لم أكن أعرف السبب. أفتُتنت فقط بقصة "رجل يعيش في جزيرة نائية في الرأس الأخضر". تخيّلت كيف أنْ لا عائلة قريبة له، ولا زوجة ولا أطفال. كلّ ذلك شَدّ اهتمامي، لأنّه نادرٌ جداً في واقعنا، خاصة في الريف. لكنْ، لم تكن لديّ معلومات ملموسة عنه إلا قليلاً جداً: صُور وتقارير اكتشفتها على الإنترنت. لذا، فكرت في صنع فيلمٍ عن رجل يعيش في الطبيعة، ويُروِّض قواها نوعاً ما. تخيّلته حقّاً رجلاً خارقاً.

في نهاية عام 2019، تحدّثت عن ذلك مع زوجتي، التي تدير شركة إنتاج، ومدير التصوير، وهو صديق مُقرّب وشريك إبداع في الوقت نفسه. كنا نحن الثلاثة فقط. لا مهندس صوت حينها. كنت ألتقط الصوت. قرّرنا بدء العمل. ربما نقوم برحلة استطلاع أولية، ثم نعود ونشرع في الاستعداد للتصوير. بصرياً، كانت الجزيرة مثيرة للإعجاب. إنّها عبارة عن صخور بركانية ومنازل مهجورة ووادٍ شاسع وجرف وبحر. كانت الطبيعة فيها هائلة وقوية. جزيرة معزولة قليلاً بالنسبة إلى المواصلات، جبلية وغامضة جداً. لذا، انتشرت فيها قصص خرافية نسمعها في الفيلم. ربما تحضر قصص كهذه في كلّ مكان مشابه في العالم، لكنْ ليس بالقوة نفسها التي توجد بها في هذه الجزيرة. حدثت فيها مآسٍ تسبّبت في رحيل الناس، فبدأوا يتداولون أنّ هناك ساحرات. ظلّ كيرينيو بمفرده منذ ذلك الحين.

 

سينما ودراما
التحديثات الحية

 

(*) أتقصد حادثة الصخرة العظيمة التي تدحرجت على منزلٍ، وسحقت شاباً؟

نعم. لكنّهم يعتقدون أن ذلك حدث بفعل قوى شريرة. في الواقع، كانت هناك حادثتان: رجلٌ وطفله حاولا عبور مضيق حرج قرب البحر. تقول الأسطورة إنّ عليك أنْ تُعدّ الأمواج، سبع أمواج، قبل الشروع في العبور. بحسب زعمهم، لأنّ الرجل لم يكن من أهل القرية، لم يعلم بالأسطورة، فابتلعه البحر مع الطفل. اختفى الأخير، ولم يُعثر على جثته، فصُدِم أهل القرية صدمة أولى.

الحادثة الثانية تتمثّل بتدحرج صخرة على منزل ووفاة شاب كان فيه. عندها قال الناس: "هذا يكفي. حان وقت الرحيل". لكنّ كيرينيو، كما يقول في بداية الفيلم، لا يؤمن بقصص الساحرات هذه.

 

(*) ما انطباعك عنه في أول لقاء بينكما؟

عندما عبرنا الطريق الجبلية المتعرّجة بصعوبة والتقيناه، كانت الصدمة قاسية لي، لأنّي رأيت رجلاً ضعيفاً جداً. كنت مرتبكاً قليلاً. كنت أتساءل كيف تمكّن من البقاء حيّاً. في القرية المجاورة، قبل أنْ أقابله، سمعت قصصاً كثيرة عنه. يكاد يكون شخصية أسطورية. لم ينسه عديدون من الذين غادروا، بمن فيهم أخته. ظلّوا قلقين بشأنه. لكنّهم لا يفهمون سبب إصراره على العيش بمفرده. لا أحد يفهم. أخبروني بأنّه، حينما كان شاباً، كان يتمتّع بقدرات جسدية مذهلة.

 

(*) نشاهده يصطاد سمكاً في البداية. لكنْ، بما أننا لا نرى سوى لقطة مقرّبة لوجهه، نعتقد أنه رجل في مقتبل العمر. بعد ذلك، عندما نراه يمشي على الصخور، نشعر بهشاشته.

أردت أنْ أظهر بهذه المتوالية كيف يمرّ الزمن، ويتغيّر الناس. إنّه مثلنا جميعاً. في الواقع، هذه قصة والديّ. بطريقة ما، هذا مررت به معهما. لكنْ، سأكون صادقاً معك: عندما رأيت الرجل أوّل مرة، شعرت بخيبة أمل. قلت: "لا. هذا ليس فيلمي". أريد صنع فيلمٍ عن رجل قوي، يتحكّم بالطبيعة. لكنّي سعيت إلى الفهم. بقينا معه. أجرينا حواراً أولياً، من دون تصوير شيءٍ. شرحت له فكرتي. لن أدّعي وأقول إنّي شعرت كأنّه كان ينتظر قدومنا. لكنّه كان ودوداً ومتعاوناً بشكل لا يُصدّق. تدريجياً، بدأنا نفهم ما كنا نفعله: لم نكن نصنع فيلماً عن هذا الرجل فحسب، بل كنا نتحدّث عن الجزيرة نفسها، وعن الرأس الأخضر برمّته. في النهاية، كنا بصدد طرح كوني.

لذا، أعود إلى قصتي الشخصية. خاصة قصة والدتي الراحلة، وتعلّقها القوي بالأرض. ذات يوم، بعد أنْ مرضت، كان عليها السفر إلى بلجيكا لتلقّي العلاج، فسافرت معها. في منتصف العلاج، أصرّت على العودة إلى الرأس الأخضر. كان هناك شيء ما يجذبها للعودة إلى أرضها الأم، لتتوفى فيها. ظلّ كيرينيو وحيداً لـ40 عاماً تقريباً، وفاءً لمسقط رأسه. تخيّل ذلك. لسوء الحظ، توفّي قبل انتهاء التصوير. هذا مُثير. هذا رجلٌ لم يغادر جزيرته الصغيرة أبداً، لكنه اليوم يسافر حول العالم مع الفيلم.

 

(*) عندما سافرت لتصوير الفيلم، هل كان لديك التمويل اللازم؟

كلا. اتخذت القرار قبل الحصول على أي مورد. قلت لفريق العمل: "علينا المغادرة الآن". مهمّ جداً أنْ يؤمن الجميع بالمشروع. في نهاية عام 2019، مَوّلنا، زوجتي وأنا، من خلال شركتنا، جزءاً من المشروع، بتعاون مع الفريق. مثلاً، دفع مدير التصوير ثمن بطاقة السفر. كنّا مقتنعين بأنّنا على وشك تحقيق شيء ما، حتى قبل أنْ نذهب. لكنّ ذلك لم يمنع أنّي كنت شكّاكاً في البداية. لم أكنْ أعرف كيف أتعامل مع هذه القصة. في البدء، عندما كنت أتحدث إلى كيرينيو، لم أستطع فهم كلّ ما يقوله. إنّه يتحدث بطريقة متشظية، لكنّ كلامه متماسك بشكل غريب، ويستخدم تعابير لم نألفها، لأنّه عاش وحيداً لفترة طويلة.

 

(*) كما لو أنّه اخترع لغته الخاصة.

بالضبط. إنّه مرتبطٌ جداً بالطبيعة. يتحدّث إلى البحر والصخور، ويناجي الطيور. لذا، في البداية، فكّرت طويلاً في كيفية استخدام صوته.

المساهمون