مساحة آمنة

14 يوليو 2024
رسم للفنان عماد حجاج
+ الخط -
اظهر الملخص
- **الحنين والألم:** يعبر الكاتب عن تجربة النزوح المتكررة والحنين إلى الوطن، مستذكراً كلمات جدته التي تحثه على عدم ترك الأرض. يبقى الأمل في العودة وحب الأرض متوارثاً بين الأجيال، رغم الألم والمعاناة.

- **النكبة والواقع المرير:** يصف الكاتب الليالي الموحشة والواقع المليء بالموت والتهجير، معبراً عن اشتياقه لحياته السابقة في غزة. الحرب دمرت مساحته الآمنة، مرسمه الصغير، الذي كان ملاذه للإبداع.

- **الضياع والبحث عن الأمل:** يعبر الكاتب عن شعوره بالضياع في مدينته المظلمة والبائسة، حيث يعيش الناس في حالة من البؤس والصدمة. الجميع يبحث عن النجاة حتى لو كانت وهمية.

اليوم نُصبح مرّة أخرى نازحين. مرة تلو الأخرى من نزوح إلى نزوح آخر. في تلك اللحظة التي عدت بها إلى الحياة مثل شهقة الغريق في الماء، بعد أن عدتُ بذاكرتي لذلك اليوم الذي طالما حدثتني عنه جدتي، وهي تردّد في أذني بصوتها الرقيق: "تركناها يا ستي، ضحكوا علينا بشوية مونة، ما تتركوها زينا يا ستي". ولكن ماذا الآن؟ نحن نعيش في هذا الواقع، ما زلنا نرى أن على هذه الأرض ما يستحق الحياة، غير أن أقدارنا ما زالت ليست ملكنا، ما زلنا لا نحلم خوفاً من تسلّل هذا الخيط من القماش بأيدٍ ليست أيدينا، ما زلنا نحلم يومياً بالعودة بالرغم من طول المدّة، ما زلنا نورث هذه العلاقة الوثيقة بالأرض لأجيال وأجيال، ما زال حلم العودة يطاردنا يوماً بعد يوم، بالرغم من رؤيتنا للبلاد بمخيلتنا فقط. ما زلنا أحراراً في هذه المخيلة، ومقيّدين في هذا الجسد، وما زلنا نورث هذا الحب لهذه الأرض.

هل ترى يا جدتي، تلك العيون التي تحيط بي الآن تروي حكايات عنك أيضاً. عاد بنا الزمان إلى زمانك، عاد بنا الزمن إلى نكبتك إلى نكبتنا، بل وأسوأ. نظرات شعبٍ كامل صارت تائهة الآن مثلي، عيون الأطفال شاخت، أثقلتها الكلمات الموجعة، تلك التفاصيل المريرة غُرست في وجه الأطفال، واستوطن هذا الألم في وجوه الأحياء. تلك نكبتنا، تلك نكبتك. 

في تلك الليالي الموحشة، كانت تواسيني الكلمات تواسيني الروايات بمأساتها وحبكتها المعقدة، رجاءً بالابتعاد عن واقعي المليء بالموت المليء بالتهجير والنزوح.. المليء بألم الفقد وشيخوخة الأطفال. واستني تلك العُقد التافهة البعيدة عن الواقع المُوجِع. مدينتي تعرف رائحة الدم، بل وتشتهيها أيضاً.

أنظرُ حولي وأسأل نفسي بمرارة: ما هذا الذي أعيشه الآن؟ هل حقاً أنا هنا؟ هل أنا في مدينتي!

أشتاق لحياتي. أشتاق لحبيبتي غزّة. إلى تلك البلاد التي أراها بعين الشوق والحنين. نعم غزّة.. إلى ضحكات الأطفال، وحنين الأصدقاء، إني أشتاقُ للحياة فيك بشدّة.. إني ملعونة بِحُبك رغم النكبات والحروب. أراك الآن جنة، هل كنا كآدم أُخرجنا منكِ! أنا تائهة.. الوحدة تضرب أضلعي من الداخل، أنا تائهة جداً، لا أدري أين أذهب، ومن أين أبدأ، وهل أبحث عن وطن آخر أم أتمسّك بكلّ ما أملك حتى آخر رمق؟ أنا عاجزة.. أأصبح الأمر مثل صراع البقاء حتى لو كان على حساب عائلتك، فالآن نفسك أولاً.

بعد كلّ هذا الوجع، وبعد كلّ هذا الشقاء، أشتاق لمرسمي. أشتاقُ لتلك الجدران المغلقة التي كانت تحتضنني بكلّ شغف، حيث كنت أقوم بإشعال الأنوار الخافتة الملوّنة، ثم أقوم بتشغيل مقطوعات الموسيقى، لأفسح المجال لفرشاتي بأن ترقص على أنغام الحياة، أشتاقُ لمساحتي الآمنة، المساحة الآمنة التي ذهبت ودمّرتها الحرب. أشتاق لمرسمي، مرسمي الصغير، كنتُ قد انتهيت من تجهيزه حديثاً، قبل الحرب بأيامٍ، واشتريت كلّ ما يلزم من ألوان وأصباغ وألواح وقماش وفُرَش. أشتاقُ لتلك الفرشاة التي لم تأتها الفرصة لتبدع وتنمو، تلك اللوحات غير المكتملة. الآن، أعتذر لها كلّها، وأتأسّف بكلّ كلمات الندم لأنني لم استخدمها، وأنني لم أف بوعدي لها بأن تصنع معي لوحات رائعة عن الحياة. أعتذر للوحاتي التي لم تر النور. تلك اللوحة المليئة بالألوان، هُدم جدارها وتبدّلت ألوانها رماداً. أشتاق لصوت عبد الحليم ولصوت أم كلثوم، وأنا منهمكة في رسم لوحة، أو تأمل أخرى انتهيت منها. كم أشتاق أن تستمع لوحاتي للأغاني لتزداد حياة، تلك الجدران الأربعة كانت منقذتي. كانت هذه مساحتي الآمنة. لكنها لم تعد كذلك. 

الآن، لا أعرف كيف أرسم. لا أعرف كيف لنازحة مثلي أن تمسك علبة الألوان، أو قطعة القماش. لدي الكثير من المشاعر الدفينة بسبب التجربة، سواء بالنزوح أو بالفقد، جميعها تتشكّل على شكل كتل داخلية لا يمكن التعبير عنها أو تخطّيها. أريد أن أرسمها، أن أعبّر عنها. كنت أفكر في رسم مجموعة لوحاتٍ عن تعدّد طرق الموت بغزّة، التعبير عنه عبر أكثر من شكل. أوضّح فيها كل المواضيع التي لها علاقة بالعدو، والخروج من هذه الحدود، بالوطن والمنفى. لكن مساحتي الآمنة ذهبت، ولم يعد كلّ هذا ممكناً. 

أنظرُ حولي وأسأل نفسي بمرارة: ما هذا الذي أعيشه الآن؟ هل حقاً أنا هنا؟ هل أنا في مدينتي! أتلكَ ملامحُ المدينة ؟، لا إنه بئر يوسف بالتأكيد، لا أضواء، لا صوت ضحكات، ولا أرى إخوتي. حتى مدينتي يملؤها الظلام، مدينتي تعرف رائحة الموت، اليوم وأمس وقبل عشرات السنين ما زال الموت ملازماً لها، الموت لصيقُ لنا في كلّ شيء. أتذكّر كثيراً تلك الصديقة التي التحقت بزوجها بعد سنتين إلى جنات النعيم، نعم هي شهيدة الآن، بعد أن رحل زوجها قبلها بعامين. أشتاقُ لأحادثها، أن أسمع منها وتسمع مني.
 
نعم. إنها المدينة نفسها، مدينتي، إنها هي بشحمها ولحمها لكنها ازدادت ظلاماً، ازدادت بؤساً، ازدادت ألماً ووجعاً. لا أحد يعرفني الآن في هذه البقعة الصغيرة ولا أعرف أحداً، اختلفت المعالم، اختلفت وجوه الأشخاص، في بقعتي الصغيرة أصبحت نازحة وأنا ما زلت في مدينتي. أنظرُ لتلك الوجوه الغريبة التي يملؤها البؤس بكلّ صوره الدفينة والمعلنة، أرى بيتاً في عيونهم لكنه مهدّم، أرى حملاً ثقيلاً على ظهورهم يتساءل كيف سنعيش؟ أرى تلك الصدمة على وجه الطفل صاحب العشرة أعوام، يأبى الحديث أو اللعب أو حتى الابتسام، يفتقد جدّه الذي قُتِل أمامه، ملازماً لشاشة وهمية تحمل الكثير من الذكريات، الجميع يريد النجاة، الجميع يبحث عنها حتى لو كانت وهمية. هذا عالم الإنسانية، تخلّى عن مدينتي الصغيرة وعن كلّ من فيها.

نصوص
التحديثات الحية
المساهمون