كيف أمضي ليلتي هذه الأيام؟

02 سبتمبر 2024
عمل للفنان الفلسطيني أسامة سعيد
+ الخط -
اظهر الملخص
- الكتابة تحت القصف المدفعي في غزة توثق المشاعر والأحاسيس التي تعجز الصورة عن نقلها، بينما الطائرات الحربية تقطع السكون بين الحين والآخر.
- الناس يكرهون الليل بسبب الخوف من الموت في الأزقة، والموسيقى والغناء هما ملاذ من واقع الحرب، لكن صوت الانفجارات يعيدهم إلى الواقع المرير.
- رفح تحتضن نحو مليوني نازح من غزة، وتظل متجاهلة من كاميرات التلفزة، مما يشكل حرجاً شديداً للإنسان أمام نفسه.

أجلسُ في شرفة تطل على الأفق المعتم، لا أرى شيئا، مشدوداً إلى الطنين اللزج، الزنانة مزروعة في رؤوسنا. بين الحين والآخر تجعر الزنزانة باستعراض وقح، وبعد لحظة أسمع صوت طائرةٍ حربية من بعيد، حتى يعبر صاروخ يضيء عتمة الأفق، في خلفية المشهد اللامرئي، لنسمع صوت انفجار هائل، يشتعل ويطلق غيمة عملاقة من الغبار الكوني.

أن تكتب تحت القصف المدفعي المتواصل وفي ساعة متأخرة، كمن يرصد الحياة، وهو يرى ويسمع صرخات الموت عالقة فيه كذيل نيزك. 

أفكّر أن الكتابة فقدتْ فضاءً من فضاءاتها لصالح الصورة، حيث تفوّقت الأخيرة في قدرتها على التأثير المباشر، وتوصيل رسالتها بحرفية لا تستطيع الكتابة مجاراتها. ومع ذلك، لم تخرج الصورة عن دورها التوثيقي لكل ما يحدث من موت ودمار هائلين. وفي الكتابة أيضا، ما يكتبه الناس عبر وسائل التواصل، لا يعدو كونه توثيقاً لكلّ ما لم تستطع الصورة رصده، كالخوف والقلق والألم والأحلام والكوابيس والخذلان وغيرها من المشاعر والأحاسيس التي يعيشها الناس تحت ضغط القتل اليومي لكلّ مظاهر الحياة بدءا بالإنسان ومروراً بكل مقومات وجوده، حتى أصغر تفصيلة من تفاصيل حياته.

أن تكتب تحت القصف المتواصل، كمن يرصد الحياة وهو يرى ويسمع صرخات الموت عالقة فيه كذيل نيزك

عمَّ ستكتب يا من نجوت دون أن تدري، وتعلم أنّ لا أحد سينجو؟ 

والكتابة هذه الأيام سباحة في دماء المذبوحين من الوريد إلى الوريد بشظايا الأيام السوداء.
صعبة  إليك  الطريق  يا إلهي 
لن تصلك رسائل هذا المساء، 
لذلك، 
لن ترفع البرد، 
ولن تأمر الجند بالرحيل، 
لن تلبس كابك الأزرق حين تعبر المخيم 
وهذا المساء لن ننادي: 
  الغوث  الغوث  
  خلصنا من النار يا ربُّ.
    
■ ■ ■

ستصرخ يا إلهي من بعيد:
- أين ستهربون؟
وبعد قليل ستسقط إلها رشيقاً،
تدفع منديلاً أبيض في وجه البركان،
وندعو سوياً:
الغوث الغوث
خلصنا من النار يا ربُّ.

■ ■ ■

ذهبتَ بنا إلى ما ذهبتَ، كأنك لم تكن إلها منذ الأزل، ولا تعرف ما الذي ينتظر أبناءك المنهكين.

■ ■ ■

الناس في غزّة تكره الليل، حيث يتجول الموت في الأزقة والطرقات، يملأ  عيونهم ولا يرونه، يتخطفهم زرافات زرافات دون أن تكون لهم القدرة على مجادلته أو التملص والهروب إلى حيث النجاة.

الكتابة هذه الأيام سباحة في دماء المذبوحين من الوريد إلى الوريد بشظايا الأيام السوداء

الناس في الحرب يكرهون الليل، وحين تطبق العتمة عليهم، يتباكون على النهار، حيث الموت فيه واضح ومرئي، وربما يكون مفهوما رغم سورياليته.

■ ■ ■

أحبُّ الموسيقى، وأحب الغناء، و أحيانا يرقّصني الطربُ فتتملكني النشوة.

فكرتُ أن أخرج قليلاً عن السياق المفروض على البلد، بانقطاعي عن كل وسائل التواصل وهيأت نفسي لسماع الموسيقى والتحليق معها، وسأختم  فسحتي بأغنية "سلو قلبي"، حيث لم أسمعها منذ سنوات طويلة، في محاولة لترميم روحي من قروحها الدامية.

صوت انفجار عديم الوصف، هز البيت هزة زلزالية لذيذة وكأنك في قارب. ارتمت بهية على صدري، وهي رفيقتي أيام الحرب، لا تفارقني إلا وقت ما تنزل إلى الشارع لتلعب مع بنات الحارة ألعاب الحرب البريئة. من شدة الانفجار أعتقدتُ أن بيت جاري كان هدف الصاروخ، لكنه كان أبعد بثلاثة جيران.

العناية الإلهية تتدخل لتأجيل الأعمار إلى أجل ما، وأحياناً تمارس مهامها بحرفية عالية في حصاد الأرواح بالجملة، وبالمئات في بعض المجازر الدامية. حالة الارتباك والخوف الغامض يدفعان أهل البيت للتحرك في كل الاتجاهات، تتبخر فكرة الموسيقى وترميم الروح، وقبل أن ينقشع الغبار الكوني، أندفع نحو حيوات تتمزق عند الجيران.

■ ■ ■

الدخول الى رفح من أبواب مختلفة

ما أوسع المدينة الصغيرة ذات الجديلتين، وهي تعبر في ذاتها خوفا على خطى المسرنمين في حضنها الجريح.

المشهد لا يتكرر، هو ممتد ولا ينتهي بخروج المنتصر منتصراًَ. لا شيء يتكرر أيتها الحياة، حتى وأنت ترقبين وتشفقين على ذات الجديلتين.

■ ■ ■

منذ ستين عامًا لم أغادر مدينة رفح إلا لسنوات متفرقات، أعرف صخبها وهدوءها، كنت أتسلّل إليها كلما تطلب الأمر صخباً أو هدوءاً، وكانت تمنحني ما أريد.

أزور رفح بين يوم وآخر هذه الأيام ، فأنا نازح خارجها، أدخل إلى قلبها وكأنني لا أعرفها، أتجول في شارعيها الرئيسيين وبعض الشوارع الفرعية، لكن هذه الشوارع القليلة ورغم تواضعها تحتضن نحو مليوني إنسان نزحوا من مخيمات ومدن كوكب غزة في مشهدية لم تحدث من قبل، ولن تتكرر في يوم ما، فليس هناك عدو أكثر انحطاطاً سيأتي في يوم ما أكثر من هذا العدو، ومع ذلك، فالمشهد اليومي لمدينة رفح تتجاهله كاميرات التلفزة قاطبة، فهو يشكل حرجاً شديداً للإنسان أمام نفسه، ولا أحد يود أن يرى نفسه كم هو قبيح وقاسٍ.

هذه الأعداد الهائلة من الضائعين في شارعين رئيسيين وبعض الشوارع الفرعية ومنذ الساعات الأولى من النهار، تزحف نحو ذواتها فتملأ ثلاثة مفترقات: العودة والشرقي والنجمة، وتزداد الأعداد كلما تقدم النهار إلى الحد الذي يجعل حركة الفرد من مكانه أمرا بالغ الصعوبة.

وحين تتحرك، تدور حول نفسك، وعلى نواصي مفترقات المدينة وامتداداتها  يقف البائعون ببضائعهم  القليلة التي لا تتعدى المعلبات المعدنية بأنواعها وأحجامها المختلفة كأغذية تستخدم عادة في الكوارث حيث يتم توزيعها على الناجين من متضرري الحروب. 

رفح تحتضن النازحين إليها وتعلم أن حضنها يتسع ويتسع.

■ ■ ■

أيها الكلب لا تنهش جثتي، فأنا شهيد وكفى، لا أعرف شيئاً عما أوصلني إلى هذا الوصف، ورضيتُ.

جعتُ مثلك أيها الوفي، لكنني لم أنهشك. إياك إياك، فلعنتي ستسكن أحشاءك.

اترك جثتي تتحلل وامضِ جائعا، خير من لعنتي أيها الكلب الوفي.


* شاعر من غزّة

نصوص
التحديثات الحية
المساهمون