أرض الجوافة

02 سبتمبر 2024
عمل للفنانة الفلسطينية تمام الأكحل
+ الخط -
اظهر الملخص
- بعد عشر سنوات من اليتم، حصلت عائلة سماح على أرض في مواصي رفح، لكن الحياة كانت قاسية بلا ماء أو كهرباء، مما دفعها للانتقال إلى تل السلطان حيث واجهت ظروفًا صعبة أخرى.
- في تل السلطان، عاشت سماح تحت القصف العشوائي، مما اضطرها للانتقال إلى بركسات الوكالة، حيث واجهت نقصًا في الموارد الأساسية ولم تجد الأمان.
- عادت سماح إلى الخيمة في أرض الجوافة، حيث استمرت في مواجهة الظروف القاسية، وحاولت الحفاظ على روحها المعنوية رغم الصعوبات، حتى تلقت مساعدات في عيد الأضحى.

سماح أبو جزر


من لا يملك أذرعاً لا يجيد الاحتضان، الخيمة مبتورةُ اليدين، أنا في جوفها أحاول لملمة نفسي دون ماء. بعد عشر سنوات من اليتم أراد الله تمليكنا قطعة أرض في منطقة تسمى مواصي رفح.

أشبه بشط بحرٍ هارب دون الماء يهرب إلى الوراء كثيراً كرجوعنا تماماً إلى الوراء مجرّدين دون إنجازات تلفظ ولا تُكتب، بعد اثنين وعشرين عاماً من وفاة والدي، نحن مضطرون إلى العيش فيها دون ماء أو كهرباء وبلا بيت. أرض قاحلة جرداء، احتضنت الكثير من النازحين من خالاتي وأبنائهن وأخواتي وأزواجهن وإخوتي وزوجاتهم. استقالت أشجار الجوافة ذات القوام الرشيق والثمار الحلوة من وظيفتها حيث كانت تزيّن كل شبر في الأرض منذ أعوام طويلة، وظفوها في إشعال النار لطهي الخبز.

بعدما اجتمعت نيران العدو ونيران الشمس وانضمت نيران الطهي، جفّت أجسامنا من حر النهار، عندها فشلت في التأقلم مع الخيمة والاعتياد على حياة البداوة. بعدما فارقتني وسادة نومي، بدأ عظمي يتقوّس من النوم على الأرض، لذلك لم أستطع عليها صبرًا دون ماء، فقررت الانتقال منها إلى بيت أختي في تل السلطان وهكذا تم نزوحي الثاني.

لن يكتمل الأمان في المنطقة ولن أجرؤ على الاعتراف بما حدث هناك. 

لا أدري ما الفرق؛ نحن نعيش الأخبار المعروضة على الإنترنت بل نحن الأخبار بحد ذاتها

نحن منفيون عن العالم بعدما انقطع الإنترنت عن المنطقة، لا أدري ما الفرق؛ نحن نعيش الأخبار المعروضة على الإنترنت بل نحن الأخبار بحد ذاتها. كانت ليلة تطل على نافذة حرب يملؤها الرعب، ونافذة أخرى يملؤها الألم بسبب طبيعتي الأنثوية؛ إذ اتفقت آلام الحيض الشهرية مع آلام النزوح على جسدي النحيل، لم يعد يقوى على السير مدة طويلة ولا حتى جر متاعي. 

في سواد الليلة الأخيرة في تل السلطان، استيقظت الطائرات قبلنا دون فرق يذكر عربدت على المنطقة وبدأت بإسقاط الصواريخ والقصف العشوائي على المباني السكنية في المدينة. "الكواد كابتر" تطلق صفاراتها الملتهبة على كل من يغادر منزله. واصلت تجوالي في الشوارع ولوهلة شعرت بأننا محاصرون، الأمر الذي أكده زوج أختي قائلاً: لن نستطيع الإفلات هذه المرة!

مع بداية انسلاخ النهار من الليل وانبثاق الضوء، بدأنا بجمع الأمتعة وكل ما هو ضروري لحياة جديدة. وصل التوكتوك وقمنا بتحميل كل ما يلزم عليه. سرنا برفقة نازحين آخرين إلى أن وصلنا إلى بركسات الوكالة (منطقة آمنة تضم الكثير من النازحين). ولكن حتى بركسات الوكالة قصفت عدة مرات، شاهدت آثار القصف على وجوه من بحثوا عن صدر الوطن الآمن، لكن فقد النازحون الأمل بعد قصف البركسات عدة مرات، لذلك فكوا الخيم وحملوا الأمتعة ورحلوا. 

كنت أسير بلا حذاء، فقررت أن أول شيء سأفعله هو أنني سأشتري حذاءً رغم أن الأحذية اختفت من السوق. هربتُ وشردت إلى عالم الخيالات الوردية لعلي ألتقط أملاً يختبئ في جعبة الأيام القادمة تحجبه عني الحرب. أيقظني مزمار سيارة فارغة، شعرت بوخزة أقدامي تُذكرني بأنني نازحة، أوقفت السائق قائلة: شارع الشاكوش؟!

رد بصلافة: الراكب خمسة عشر شيكلاً.

كل يوم هو يوم المبيت الأول لي بين أحضان الخيمة لأنني بكل بساطة لم أعد أشعر بالأيام والتواريخ

تحسست جيبي لم يكن فيه سوى عشرين شيكلاً فقط. حاولت مساومته أجابني بتنهيدة عالية بأن البنزين انقطع من البلد وما يتوفر سعره مرتفع جداً. قررنا أن نواصل الطريق سيراً على الأقدام. واصلنا يجر أحدنا الآخر. اشتدت الشمس وبدأنا نشعر بشدة وحدة ألم الأقدام والعطش والجوع. سرنا خائفين إلى أن وصلنا إلى مناطق الأمان كما سموها (شارع الشاكوش). يجلس الباعة على جوانب الطرقات، يجلس الواحد منهم بمعلبات أو بسكويت أو حتى قطع من الأواني منتهية الصلاحية. اشترينا البسكويت. أجهزت الرضيعة "مسك" على نصفه والنصف الآخر تشاركنا فيه جميعنا. سرنا مسافة طويلة بعد شارع "الشاكوش" لنصل أخيراً إلى "بير 22" حيث أرض الجوافة.

مما علق في ذهني من ذلك اليوم، حين انتقلت إلى أرض الجوافة، كان الشجار الذي حدث بين عائلتين من عائلات رفح الكبيرة أو في القطاع بسبب تقاطع الشاحنات في الطريق، وبسبب زوبعة التنقل الكبيرة التي تحصل في كل مكان. أناس نازحة وأخرى تنتقل، تقاطعت الشاحنات والعقول على باب أرض الجوافة. تزامن هذا مع القصف العشوائي وبدأ إطلاق النار بين العائلتين. طلقات النار تطير حرة تشعر بفرحتها أثناء سماعك أصوات الناس الخائفة. لم أسمع إطلاق النار أثناء هروبنا نحن النساء إلى بيت الجيران بل سمعت صوت خاطفة "روزانبل".

مرة بعد أخرى، بقلب يملؤه عزاء الدنيا، رجعت إلى الخيمة نفسها، إلى الحرارة المرتفعة، وإلى لدغ الحشرات وإلى الحكّة المستمرة، وإلى تساقط الشعر وإلى اسمرار البشرة. رجعت إلى الخيمة وما زالت صديقتي شيماء من جنين تواصل إرسال رسائل نصية لي عبر الهاتف المحمول، رسالة مطمئنة وأخرى محذرة، تسألني عن حالي بتردد. كنت قد اعتدت أنا وشيماء أن نتهاتف كل يوم جمعة عند الرابعة تماماً عبر خاصية الفيديو. اشتقت إلى مكالماتي تلك مع شيماء. أردّ عليها بحرارة أنا بخير ولكنني دون ماء وأتمنى الاستحمام، أرى منها إجابة طويلة كلها دعاء وفضل صيام ذي الحجة، أجيبها ما زلت في الخيمة وهذا لن يمنعني من الاحتفال بيوم التروية. 

نعم، فللمرة الأولى بعد مرور العديد من السنوات أحتفل بالعيد دون صيام العشرة من ذي الحجة . لدي روح ما زالت تتنفس البارود وتغتسل برمال صحراء رفح.

كل يوم هو يوم المبيت الأول لي بين أحضان الخيمة لأنني بكل بساطة لم أعد أشعر بالأيام والتواريخ، هو يوم واحد متصل طويل كله مشقة. أنا عبارة عن مكعبات من المشاعر المتناقضة لا يجوز تركيبها بعضها فوق بعض، أشبه الفكرة التي تقفز بين السطور لا هداية لها. رجعت الى أرض الجوافة مرة أخرى بقلب يملؤه عزاء الدنيا.

ما زلت أقطن في خيمة وما زلت أحتفل بيوم التروية، فللمرة الأولى بعد مرور العديد من السنوات أحتفل بالعيد دون صيام العشرة من ذي الحجة . أيجوز الصيام لي، وأنا بروح منهكة ترتجي الله أن يبقي من فقدت بخير وبجسد هزيل تتأمل الجميع مودعة أرواحاً تتحرك أمامها وكلها أمل بأن تبقى؟ أنا والجميع حولي نتأهب لمواجهة نزوح آخر أو فقد أو حتى مجاعة مرتقبة تحت أشعة فوق بنفسجية حارقة. أدركت الآن أن الغلاف الجوي ترك سماءنا وحيدة. 

أيجوز لنا الصيام ونحن لا طاقة لنا به! المبيت الأول لي بين أحضان خيمة لا ترجو شفاعة أحد، متمردة حارقة تحفها شمس الصيف الصفراء كان يشبه مبيتي في القبر، صحيح أنني لم أخض تجربة الموت بعد ولكنني أخوض أصعب منها إذ أموت كل ليلة من حر النهار دون ماء.

في أول أيام عيد الأضحى، أخذت طائرات الإغاثة تسقط علينا مساعدات من الجو. الهدايا والموت يسقطان من السماء. سقطت مظلة فوق خيمة إحداهن وهي جالسة فيها ترتجي الأمان من العدو، لم يخطر ببالها أن شيئاً مثل هذا سيحدث حيث كانت تجلس تُطعم صغارها مما توفر عندها حين سقط صندوق خشبي تحمله مظلة أنزلتها طائرة ترمي بالمساعدات من الجو. سقط الصندوق فوقها تماماً، لحق الناس بالصندوق داخل الخيمة. كانت المرأة تحت الصندوق والناس يتكومون حولها.

يا للعيد! ويا للمساعدة القاتلة هذه!

*كاتبة من غزّة

نصوص
التحديثات الحية
المساهمون