مخيم جباليا... الحصار

29 اغسطس 2024
مقطع من عمل للفنان الفلسطيني نبيل عناني
+ الخط -

أنا ابنةُ مخيّمِ جباليا، هكذا أعرِّف نفسي حين أُسألُ عن سكني، وإقامتي، حتّى حينَ غادرتُ المخيمَ قبلَ الحرب؛ لأسكن حيَّ الرمال، أرقى أحياءِ غزّة، الذي أصبحَ -معَ كلّ أحياءِ غزة- حُطامًا وركامًا بعد نكبةِ غزةَ الأخيرة.

أعرفُ أحياءَ المخيمِ، وعائلاتِه، وجذورَها، وأماكنَ سُكناها، أحفظُ أزِقَّتَه، ودكاكينَه، ومحلاتِه، هكذا يعرفُ ابنُ البلدِ أرضَه، أما الغريبُ فيَحتارُ في الجغرافيا، وَيَستقوي بالتكنولوجيا التي لا تَحميهِ من هجومِ الذئابِ الخارجينَ من الحاراتِ، الطالعينَ له من بَين الأزقّة، ومن قلب البيوتِ التي حرّقَها، ومن العماراتِ التي نسفها ودمّرها، ومن المقابرِ التي بعثرَ القبور فيها، وأيقظَ الأمواتَ من سباتهم لهولِ ما أُطْلِقَ عليهم من القذائف والصواريخ... ابنُ البلدِ الذي يحتضنُ أخاه، ويطردُ العابرَ ولو أتانا مدجّجًا بالسلاح، أو جاء لابسًا ثيابَ الحملان.

في الجامعةِ، وفي العملِ، كنّا نتفاخرُ بين أقرانِنا وزملائنا بالترابطِ الاجتماعيِّ في المخيّم، وببيوتِنا المفتوحةِ للخير فيه، وبصحونِ الطعامِ المتبادلةِ بين الجيرانِ كلّ يومٍ، وبرقيّ أهلِنا فيه، وبثقافةِ شبابِه، وانتمائِهم العميقِ إلى قضيَّتِنا الفلسطينية. فنحنُ أبناءُ المعسكَرِ، أي إنّنا جميعًا جنودُ الثورةِ، وكلُّ شرارةٍ لأيِّ ثورةٍ في البلادِ لا بدّ أن تخرجَ من عندنا، ومن شوارعِنا الضيقةِ التي اتسعتْ لجماهيرِ الثوّار الغاضبين الهاتفينَ لفلسطينَ ضدَّ الاحتلالِ، أو ضدّ الحكومات.

أحبّ المخيم -فكرةً- كلّنا فيه متّقدونَ بالثورةِ، مشتعلونَ بالحماسةِ للقضيةِ، ومنشغلونَ بها، كلُّنا لاجئون توّاقونَ إلى العودة، وحالمونَ بسُكْنى الريفِ المسلوب. لا أُخفيكم سرًّا أنني في طفولَتي كرهتُ الكتل الإسمنتيّة التي قيّدتْني، وكبّلتْ مخيّلتي، فلا شيء غير الرماديّ في ذاكرتي، وكنتُ أريدُ أن أعودَ إلى الريف، إلى بياراتِ البرتقالِ وكرومِ العنبِ ومزارعِ الزيتونِ والنخيلِ في ذاكرةِ الأجدادِ المحكيّة.

خارجةٌ من المعركةِ بجسد مثقل بالشظايا، وعقلٍ منهك من الأرقِ والترقّب، وروح متعبةٍ من تلقي الصدمات

هذا الحلمُ المستَعصي على أربعةِ أجيالٍ سكنت المخيم:
جيلِ والدِ جدّي الذي نزل وحيدًا مخيم الشابورةِ في رفح، هاربًا من عجزِه عن الثأرِ للنساءِ اللواتي أعدمتْهنَّ العصاباتُ، وألقتْ جثَثَهنّ في بئرِ القريةِ، ومصدومًا من مشهدِ الثوّارِ مضرجينَ بدمائهمْ تحت كرومِ العنب، مستجيبًا لدعواتِ الجيش المصري إلى المغادرةِ حتى استعادةِ القريةِ، فاضطر إلى أن يحملَ ألمَه وثأرَه وفقدَه، ويتركَ خلفَه طعامًا يكفي دجاجاتِه ثلاثةَ أيامٍ، لكنّ القدر كان يخبئُ له رحلةَ عذابٍ، ومسيرةَ لجوءٍ مريرةً وطويلةً، له ولأبنائه ولأحفادِه وأولادِهم، حتّى أدّى واجبَه، وأعطانا الوطنَ أمانةً، وأورثَنا العزّة واللجوء، ودُفِن في مخيم جباليا شمالًا.

ثم جيلِ جدّي المقاتلِ في "جيشِ التحريرِ" في سيناء، الذي أنهكتْهُ الثورة، وحرمتْه صحّته، وأفنَتْ شبابَه، فماتَ مريضًا، لكنّه استطاعَ أن يشتريَ منزلَ العائلةِ في المخيمِ بخمسين ليرة مصريّة، من عرقِ جبينِه، من دونِ تسلّقٍ أو تملّقٍ أو انتفاعٍ من القضية.

وجيلِ والدي النازحِ في الشابورة نفسها، العالقِ وحده في الجنوب، الذي عمّرَ البيت في المخيم من دون منّة من أحد، وبكدِّ يدِه التي أذابتها الطباشيرُ، وبآلامِ رجليْه التي تقوّستْ من وقفاتٍ طويلةٍ أمام الطلاب.

وأنا مع إخوتي في الشمالِ: من الجيلِ الذي سَعِدَ بتأسيسِ السلطة الوطنيّةِ، وطارَ مع النسرِ حالمًا ببناءِ الدولةِ الفلسطينيّةِ، وعايَشَ الانتفاضةَ، وهتَف مع المتظاهرين فيها، وشهدَ حروبَ غزةَ الطوالَ، وانهيارَ سقفِ أحلامِه وعذابِه مع سنينِ الحصارِ، وحاولَ جاهدًا أن يُساهمَ في الإعمار، ثم اصطدم -فجأةً- بإعادةِ الاحتلالِ، والاعتقالِ بالجُملةِ من دون تهمةٍ أو محاكمةٍ، وشاهد بأمّ عينه النكبةَ الثانيةَ، وكيف كانتِ الوحشيّةُ سببًا رئيسًا في التهجيرِ الأولِ، والنزوحِ الثاني.

الكل استعاد قوته فجأة، جميعنا ننكش الحجارة؛ بحثًا عن أشيائنا، أو محاولة لاستعادة السكنى بعدَ الخراب

أربعةُ أجيالٍ كانت عصيّةً على النسيانِ والمساومةِ على الحقوق، رافضةً للذلّ والهوان، غيرَ متنازلةٍ عن حقوقِها الوطنيّةِ التي لا تسقطُ بالتّقادمِ، ولا ينساها الصغارُ بعد موتِ الكبار. استطاع جيلٌ واحدٌ أخير أن يخترقَ الجدار، ويكسرَ الحصار للحظةٍ.  لكنّ تحقيقَ شيءٍ من الحلمِ الذي كان يبدو بعيدًا ومستحيلًا، يعني أن ندفعَ الثمن من سفكِ دمنا المُراق، ومن شقاءِ أعمارِنا، ومن عمارة مساكِنِنا.

هل كانت تلكَ المحاولةُ فعلًا أسطوريًّا يستحقُّ أن تراقَ دماؤنا؛ لأجلِ التطهير -بالمفهوم المسرحيّ التراجيديّ-  هل كانت خطوةً لصناعةِ التاريخ لا بدّ منها ومن مكتَسباتِها من حرّ الخيام وجوعِ الأنامِ؟ عندي دوارُ الأسئلةِ التي لا طاقةَ لي بالإجابةِ عنها، أشعرُ أنني خارجةٌ من المعركةِ بجسدٍ مثقل بالشظايا، وعقلٍ منهكٍ من الأرقِ والترقّب، وروحٍ متعبةٍ من تلقي الصدمات.

خطَفَ الاحتلالُ أمامَ عيني قبلَ أيامٍ  خمسة عشر روحًا من حارتنا ( 18 أيار/ مايو 2024)، بالقذائفِ المدفعيّةِ التي داهمتْ بيوتَنا، وشارعَنا، حاولْنا إنقاذَ الجرحى بما عرفْناه من مبادئِ الإسعافِ، فالمخيمُ منطقةٌ عسكريّةٌ مغلقةٌ، والاتصالاتُ شبهُ مقطوعةٍ أغلبَ الأوقات. سعى الشبابُ إلى انتشالِ الجرحى على عرباتِ الحمير؛ ليوصلوهم إلى مشفى "الشهيد كمال عدوان" المحاصر؛ لعلّهم يعطونهم فرصةً أخيرةً للحياة، فيما ارتقى الشهداءُ الأطهارُ -من دون عذابٍ- إلى روحٍ وريحانٍ وربٍّ راضٍ غير غضبان... وبقيت أرواحُنا عنيدةً حتى على الموت، بعدها نزحَ أغلبُ الجيران بحثًا عن النجاةِ من الاستهدافِ المباشرِ المتكررِ للحيّ.

الدباباتُ على بُعدِ أمتارٍ فقط من منزلنا، تقتربُ كلّ يومٍ من حيّنا، وقذائفُها تتهاطلُ مطرًا طيلة الوقتِ فوقَ رؤوسنا، ولا نريدُ المغادرة، فلا مكانَ يمنحُنا الأمانَ في بلادِ القهرِ والموتِ!  مضى أسبوعانِ من العذابِ والمعاناةِ والقصف المنهجيّ المستمرِ، والحرقِ المكثّفِ للمساكنِ والمخازنِ والأسواقِ، وطالتِ العمليةُ العسكريّةُ التي وصفَها جيشُ الاحتلال بالمحدودةِ، ونفدَ خزّانُ الصبرِ الذي كان قد عُبّئ بما تبقى من إيمان وعقلٍ نسأل ثباتَهُما من هولِ ما نلقى.

صرنا نعدُّ العائلاتِ المتبقيةَ في المخيمِ على الأصابعِ، اقترح الرجالُ أن تغادرَ الفتيات، فيما يبقونَ في بيوتهم؛ لحمايتِها وحراستِها، بينما اقترحت النساءُ أن يخرج الرجالُ فيما يبقينَ في منازلهن؛ في سعيٍ لحمايةِ الشبابِ من الانتقام من خلال الإعدامِ الميدانيِّ أو الاعتقالِ التعسفيّ في حال اقتحامِ المنازل، كنّا مستعدينَ ومستعداتٍ للفداءِ من أجلِ أن يَحيا البقيّةُ كرامًا سالمين. رفضَ الشبابُ بقاء الفتياتِ والنساءِ وحدهن، ورفضَتِ النساءُ تركَ الشبابِ وحدهم، وكانَ القرارُ الموحَّد: إمّا أن نعيشَ جميعًا، وإما أن نموت جميعًا.

كان ذلك تجسيدًا واضحًا للسحجة الفلسطينية التي تغنّى في الأعراس الفلسطينية، لكنّ أهل المخيّم اليوم يقولونها في مقامِ الأتراح المُقامة على أشلاء الشهداء:
"ويّاك وياك يا اللي ربيت أنا وياك 
وإن متت متنا سوا وإن عشت أنا وياك 
يا أحباب يا أحباب كيف الحال وكيف انتو
وانتو لينا على العهد ولا تغيرتو؟! 
يا دار يا دار لا تبكي ع أصحابك 
راحوا بلاد الطمع وسكروا أبوابك
والله يا دار لو عدنا كما كنا 
لأكسيك يا دار بعد الشيد بالحنّة
يا شمس بعد المغيب تفقدي الأحباب
وتفقدي اللي حضر وتفقدي اللي غاب"
..


■ ■ ■


في هذهِ الحرب، كما في كل حربٍ، بقيَ المخيم عامرًا، واحتضنّا بين أزقته المهجّرين من بيت لاهيا وبيت حانون شمالًا، ومن مخيم الشاطئ وحي الرمال غربًا، ورفضنا -كما في كل مرةٍ- التهجير. لكنْ، شهدَ المخيم في هذه المرةِ ما لم يعهدْه من السلاح المطوّر، ودارَ علينا دولابُ التهجير الذي حاولْنا الفرارَ منه... لا مهربَ، فالتهجير قدرُ الكلّ في غزة!

انهارتِ المنازلُ من حولنا في منطقةِ الفالوجا ليلةَ الجمعةِ (24 أيار/ مايو 2024)، وصارتِ الدباباتُ نهارَ الجمعةِ أقربِ إلينا من ذي قبل، خرجَ أخي ليستطلعَ أمرَ الحارة، فسقطتْ صواريخُ أخرى على بيوتِ جيرانِنا، وارتقى مزيدٌ من الشهداء، لم يستطعِ الشبابُ دفنهم؛ لعنفِ الغارات ونسفِ البيوت، فكان قرارُ المتبقينَ بضرورة المغادرة جميعًا وإلا داستْنا الدباباتُ، أو أعدمَنا الجيشُ في البيوت، أو فجّرَها وحرقَنا أحياءً مثلما يفعلُ في كلّ اجتياحٍ أو مداهمةٍ لأيِّ منزلٍ في غزةَ، بحسب رواياتِ الشهودِ الناجينَ.

خرجْنا بدموعِنا من بينِ القذائف الناريّة، وشاهدْنا ألسنةَ الدخانِ واللهبِ تبتلعُ العماراتِ، وكراتِ الحجارةِ تتساقطُ من البيوتِ، ألقيْنا نظرةَ الوداعِ على الديارِ التي أُخْرجنا منها بعدَ أسبوعيْنِ كاملينِ من الصمودِ تحتَ الحصار. انسحب الاحتلال بعدها بأيامٍ جزئيًّا من المخيم، عاد الشبابُ في البدايةِ يومَ الخميس (30 أيار/ مايو 2024)؛ ليتأكّدوا من الانسحابِ الكامل، وليحاوِلوا استصلاحَ البيوتِ بعد هجومِ التتار، وتنظيفِ الشوارعِ ليهيّئوا عودةَ المهجّرينَ إليه. 

بعد الاجتياحِ الأخير، تكشّفت الفاجعةُ، إذ حُرِقت المدارس، وجُرّفت أسوارها، وقُصفت المنازلُ، وحُرِقت المحال التجارية، وفُتِحَت شوارع جديدة في المخيم، إلى درجة أنني استطعتُ اختصارَ المسافاتِ فيه بعد تجريفِ منازلِ المواطنين، كما  لم أتعرف على كثيرٍ من الأماكن فقد مُسِحَت بالكامل.

لكن يمكننا القول - بكل فخرٍ- إنّ أسرعَ عودةٍ للمهجّرينَ إلى منازلهم كانت في مخيم جباليا، فلم أتوقعْ أن تعودَ الحياةُ إليهِ بهذا الشكل، فقد صُدِمتُ يوم الجمعة حين رجعتُ، من حجم الكارثة، لكنّ روحَ مخيّم جباليا لا تهدأُ ولا تستكينُ، وإرادةُ البقاء فيه عجيبةٌ وغريبةٌ، فالكلُّ بعدَ تدمير بيوته أصلَحها، أو سكنَ أنقاضَها، أو ما تبقّى فيها، أو نصبَ الخيامَ فوقَ أرضه، أو بنى الحجارةَ من جديدٍ... الكلُّ استعادَ قوتَه فجأةً، جميعُنا ننكشُ الحجارة؛ بحثًا عن أشيائِنا، أو محاولةً لاستعادةِ السُّكنى بعدَ الخراب.

وبذلك خابت كلُّ قوى الإرهابِ، وخسِئت كلّ محاولاتِ الإبادةِ والتهجيرِ، وعاشت إرادتنا.

* كاتبة من غزة

نصوص
التحديثات الحية
المساهمون