عائد إلى الشمال

01 سبتمبر 2024
مقطع من عمل للفنانة الفلسطينية جمانة الحسيني
+ الخط -

الساعة تشير إلى السادسة صباحاً، أستيقظ من النوم وأجلس في الشرفة، أمتّع ناظري بأصوات العصافير، تحضر زوجتي كالمعتاد ونرتشف القهوة معا، ونسترجع ذكرياتنا الجميلة، قبل أن أذهب لأبدل ملابسي لأتوجّه إلى عملي، بينما توقظ زوجتي الأبناء للذهاب إلى المدرسة. وفجأة ودون سابق إنذار، انفجارات تتعالى فنجلس وسط البيت وأحتضن أطفالي، وبعد ساعتين أخرج من البيت وأنا استند إلى الجدران، وأحاول معرفة ما يحدث بلا فائدة. أعود وأستمع إلى الأخبار من المذياع.

- المقاومة تهاجم مستوطنات العدو.

ساعات قليلة وتبدأ الطائرات الحربية الإسرائيلية بقصف عنيف لم يسبق له مثيل.. بقينا في البيت ولم نخرج إلا لشراء بعض الحاجيات الأساسية على عجالة، فالرعب يسيطر علينا. 

بقينا على هذه الحال أسبوعا كاملاً، حتى زادت حدة قصف منطقتنا، فغادرت البيت وعلى كتفي أبنائي نركض ونركض ونركض، حتى وصلنا إلى ًمنطقة أخرى والعرق يتساقط من أجسادنا، جلسنا على الرصيف بالعراء!! ما هو الحل؟ أين أذهب؟ ماذا سيحدث؟ من السبب بالحرب؟ رأسي يكاد ينفجر من التفكير في قادم الأيام؟ بلا ‘جابة ظللنا على حالنا وبعد يومين وبصعوبة وجدنا مأوى.

ينبعث أكسجين السعادة من أحشائي، يباغتني صقر فيقف على كتفي، يشاركني خلوتي وأنا أقرأ دون ملل

في غرفةٍ صغيرة بلا نوافذ، بالطابق الأرضي وسط نازحين كثر والحرارة في ارتفاع مستمر، وأصوات القصف براً وبحراً وجواً تشتدّ بلا هوادة ولا رحمة، وكلّ دقيقة تمرّ علينا كأنها عام كامل. 

نهضتُ من مكاني أبكي على ما حل بنا وأنا أتأمَّل ملامح أطفالي، وقلبي يرتجف خوفاً عليهم، أضرب أخماسًا بأسداس.

 لم أعرف ماذا أفعل. كلّ شيء تحوَّل إلى سواد. 

تقول الزوجة:  

- اجلس ما عليك إلا الدعاء.

- إنها حرب مدمرة.

- لا تقلق وما علينا إلا بحسبنا الله ونعم الوكيل.

- إنَّهم ثلاثة أبناء وزهرة.. ضاعت أحلامهم، قلبي يعتصر ألماً عليهم، أرجو أن تتوقف الحرب يا رب.

ومع ضوء برتقالي أضاء المكان وانهارت أجزاء كبيرة من المكان وأُصبنا جميعا وبدأت أركض على نصف قدم وأحمل ثلاثة أطفال، وزوجتي تحمل الزهرة الرابعة، والدماء تتناثر من أجسادنا حتى  قطعنا مسافة خمسة كيلو متر تقريباً، وجلسنا في مدرسة إيواء اللاجئين في دير البلح وسط قطاع غزّة، في خيمة صغيرة في ساحة المدرسة حتى قال عنه أحد أبنائي 

- إنها ساحة مجاعة وأمراض هل يعقل أن نبقى هنا؟!

ردّت الأم بحسرة وألم:

- وماذا عسانا أن نفعل يا بني.

خمسة حمامات صالحة للاستخدام فقط لنحو عشرة آلاف نازح تستخدمها النساء، بينما الرجال يقضون حاجتهم في أراض زراعية بالليل حتى لا تتكشّف عوراتهم.

بعد عديد الأمراض التي أصابتنا نزحنا للمرة الرابعة إلى منطقة النصيرات مقابل مكبّ نفايات

شهرٌ كاملٌ حتى تم قصف المدرسة بقذائف المدفعية الثقيلة، وأصيب اثنان من أبنائي بجروحٍ بسيطة وهربنا، لننجو بأنفسنا تاركين خلفنا الكثير من المقتنيات والطناجر والملاعق وغالونات المياه التي اشتريتها بأسعار عالية جداً وهي بالأصل مستخدمة، حتى إن البعض قال بأنها كانت تستخدم للدواجن والطيور..

نركض إلى أين؟! لا نعرف حتى وصلنا إلى منطقة معسكر البحر. جلسنا في العراء بصعوبة، حيث الحشرات والقاذورات والكلاب ومياه الصرف الصحي (المجاري)، وصوت الطائرات  ينخر في رؤوسنا..

بعد عديد الأمراض التي أصابتنا نزحنا للمرة الرابعة إلى منطقة النصيرات مقابل مكبّ نفايات، فلم نمكث طويلاً هناك حتى غادرنا المكان لشدّة القصف وتقدّم الدبابات، حتى وصلنا إلى بلدة الزوايدة ومكثنا فيها حتى تحوّلت حياتنا إلى جحيم، فنسرع في الصباح الباكر لتوفير المياه، بينما في وقت الظهيرة نتوه في زحمة السوق لشراء بعض الأكل في ظل انعدام الأموال والسيولة.

والناس تائهون ويزدادون فقراً وحاجة وما زلنا نعاني دون أي اهتمام من أحد.

والعالم صامت تماماً صمت القبور ونحن في انتظار المجهول.

أخيرًا.. أعلن جيش الاحتلال الإسرائيلي انسحاب قواته من داخل مدينة غزّة إلى أطرافها، بعد ما يقارب خمسة أشهر.

غادرنا الخيمة الصغيرة في أحد مراكز الإيواء في الزوايدة، بعد أن سمعنا هتافا من الناس بأن الطريق مفتوحة، وأن الاحتلال انسحب جزئياً من خط البحر، ركضتُ مسرعًا نحو بيتي في غزّة جرياً على الأقدام في ظلّ ارتفاع درجات الحرارة، والحمد الله، تمكنّا مع مجموعة كبيرةٍ من الناس من المرور من شارع البحر باتجاه غزّة نحو بيتي. نعم نجحت في ذلك.

وأنا أتأمل كلّ شيء حولي، كان يغشانى الهمّ والكدر من رأسي حتى أخمص قدمي، قلبي يرتجف خوفاً، عقلي مشتتٌ، جسدي هزيلٌ، لكني أواصل السير في شوارع غزة، فجأة اختل توازني، وسقطت  في حفرة عميقة، عدتُ ألملم نفسي، لكني مازالت فاقداً القدرة على الاستمرار، من هول ما شاهدت.

مبانٍ تتساقط، أصوات وصراخ الأطفال والنساء لا يهدأ، جثث وأشلاء الشهداء تتناثر، وقذائف المدافع كرشقات المطر تتدفق، أسند ظهري على بقايا حجارة متناثر في الطريق والرعب يشل أركاني.

ظللت أسير بلا هدى، وفي كلّ خطوة أتأمل مدينتي الشاحبة بطرقاتها وأحيائها الكئيبة، عمَّ الدمار بيوتها، وتغلغلت الدِّماء في ترابها.. لم يتبقَ منها شيء، طُمس جمالها، وماتت الحياة في نفوس سكانها. استقرّ بي المطاف فوق أنقاض منزلي الجميل، وجنتاه مبللتان بدموعي المنهمرة، مازلت أنظر والحسرة تملأ قلبي إلى بقايا حديقتي وبصوت ملتاع خافت يهمس لروحه: 

- آآآه يا الله، ما ذنب الأشجار المثمرة لتصبح كتلة من السواد؟! اجتثوا جذورها وحرمونا من طيب ثمارها. 

آآآه حتى بقرتنا اللطيفة التي كانت تروينا كل صباح من حليبها فينعش عقولنا ويشحذ تفكيرنا، أضحت أثراً بعد عين، كم اشتقت لصياح الديك الذي يوقظنا لأداء صلاة الفجر، فلن أنسى منقاره الذي كان يداعبني كلما وضعت له الطعام، فمن سيوقظنا بعد اليوم؟! 

أمسكتُ بأغصان  شجرة البرتقال التي كانت تمثّل بالنسبة لي شيئاً كبيراً، فعلى مدار سنوات طويلة أجلس تحتها أتناول كوباً من حنين الماضي.. أستنشق هواء الأمل.. أمتع ناظري بعناق الثمار.. ينبعث أكسجين السعادة من أحشائي، يباغتني صقر فيقف على كتفي، يشاركني خلوتي وانا أقرأ دون ملل. انتهي من كتاب.. أذهب وأحضر الآخر وأنا بكامل رشاقتي، فكلّ مرة أذهب إلى عالمٍ جديد؛ لكن قلبي يميل إلى تاريخ المسيري، وفكر مصطفى محمود، وجماليات عباس محمود العقاد وأشعار المتنبي.. فيعمّ المساء لتنتهي رحلتي مع كتاب، وأتهيأ للبدء بآخر! فمن سيعيد لي تلك اللحظات الجميلة؟

أستلقي على ظهري، أحاول مسح دموعي المنهمرة؛ أتأمل صفاء السماء، ولمعان النجوم؛ فلربما يهدأ قلبي المتعب من هذا الحرب اللعينة والمدمرة، وتملؤه سكينة وطمأنينة، ويستيقظ الحنين لكل ما فقدته، ويشرق الأمل في روحي الحيرى وسط هذا الضجيج من الألم الذي احتل كلّ الأمكنة.

أنتبه على عويل أمّ ثكلى تمر بجواري وتنادي على ابنها..، وتتعثر بين الركام المتبعثر في كل مكان. تابعتها بقلقٍ، فرأيتها تعانق بدلة بيضاء، والدموع تنهمر من عينيها بغزارة تكاد تفتك وتمزق كل قلب في المدينة الحزينة. علمتُ في ما بعد بقصة أم خالد التي تبكي ابنها، فقد صادف أمس موعد زفافه آملة بأن يستجيب لها، ويخرج من قبره، فقد سقط شهيداً في الحرب.


* كاتب من غزة

نصوص
التحديثات الحية
المساهمون