محرر الأخبار إذ ينقطع عن الأخبار

14 اغسطس 2024
عمل للفنانة الفلسطينية مها الداية
+ الخط -

أصوات الانفجارات المتلاحقة، جعلتني أقفز من سريري لا أدري ما الذي حدث فجأة؟! كانت ساعة مرعبة، حيث أقيم في منطقة حدودية شرق مدينة جباليا شمالي قطاع غزة، وهي قريبة جداً من الحدود، خرجنا من المنزل على وجه السرعة بملابس البيت من دون حتى أن أنتعل حذائي، بحثاً عن الأمان في حيّ آخر في جباليا، وحتى أجهزة الحاسوب الخاصة بعملي تركتها ورائي هرباً من الموت المحتم.

ذهبنا الى منزل أختي في جباليا البلد، حاولت استكمال عملي ونشر الأخبار على موقع البوابة "24" الذي أسسته مع زميلتي ميسون كحيل. واصلتُ العمل لأكثر من اثنتي عشرة ساعة في اليوم في ظلّ انقطاع الكهرباء وسوء خدمة الإنترنت، كنتُ أرسل هاتفي إلى أحد الأماكن القريبة لشحنه كي أستكمل العمل، وعندما ينقطع الإنترنت في المنزل، كنت أحصل على بطاقات للإنترنت قدرتها أقل من الإنترنت العادي، لكن كانت تمكنني من إتمام عملي ونشر الأخبار.

في اليوم الخامس للحرب بدأ القصف يطاول المنزل الذي نتواجد فيه بشكل مباشر، حيث شنّ الطيران الحربي حزاماً نارياً على شرق جباليا، بالتالي دخل الفوسفور إلى المنزل، ونحن في داخله وبدأ يشعر كلّ من كانوا هناك بالتعب، وبدت علينا جميعاً حالة من الإعياء.

لا مياه طوال أيام، ونملأ الخزانات من السوق السوداء بأضعاف سعرها الحقيقي

تنقلنا في جباليا خمس مرات في بيوت أقاربنا، كنا نهرب في كلّ مرة مع اشتداد القصف حولنا، ومع طلب جيش الاحتلال من المواطنين مغادرة شمال غزة توجهنا كما باقي السكان إلى جنوب قطاع غزّة، إذ كانت وجهتنا في البداية إلى خانيونس، حيث يوجد مكتب عمل لأحد أقاربنا، فتوجهت مع عائلتي، كان العدد كبيرا، كنا اثنين وعشرين شخصا صغارا وكبارا.

كان شارع صلاح الدين مخيفاً جداً، خرجنا من جباليا وكان القصف مستمراً، مع أحزمة نارية تهز شمال القطاع، شارع يافا الذي كان يضج بالحياة والحيوية أصبح فارغاً تماماً وكان القصف مهولاً على جانبي الطريق، كنا نحن فقط في شارع صلاح الدين. توجهنا إلى خانيونس في البداية تحت القصف حيث كان علينا أن نذهب إلى مكان لا نعرفه ولا نعرف إذا كان به مقومات الحياة أم لا، هل المكان مؤّهل للسكن ولهذا العدد الكبير؟! أسئلة كثيرة تخطر على البال دون أن نعرف لها إجابة.

عندما وصلنا إلى خانيونس كانت العمارة التي يوجد بها المكتب مغلقة وكنا في الشارع وحدنا. فصاحب العقار رفض أن يفتح لنا المنزل، قال نحن لا نعرف من أنتم! وهذا يشكل خطراً على العمارة. حاولنا أن نعرّفه بأنفسنا وأننا مدنيون جئنا نلجأ إلى هذا المكتب وأننا نملك المفتاح. لكنه رفض أن نصعد إلى المكتب، وهنا كانت الكارثة، وجدنا أنفسنا في خانيونس وليس لنا أقارب في الجنوب، إذ إن عائلتي الممتدة تتمركز في جباليا وغزة، كنا في حيرة من أمرنا ولا نعرف إلى أين نذهب، والقصف مستمر ومعنا عدد كبير من الأطفال. حاولنا عدة ساعات مع صاحب العمارة من دون جدوى، هنا بدأ الأطفال يشعرون بالجوع، فكانت الأمور صعبة جداً.

حاول الجميع التواصل مع المعارف والأصدقاء، في البداية كانوا جميعاً يعتقدون أنها مجرد أيام، وسنعود الى جباليا. استطاع أخي أن يتواصل مع صديق له في مخيم النصيرات كي يجد لنا شقة فارغة، لكن هذا الصديق الأصيل أصرّ على استضافتنا في منزلهم إلى حين انتهاء الحرب. وكنا نفضّل أن نذهب إلى أناس نعرفهم ونعرف المنطقة، فتوجهنا من خانيونس إلى النصيرات يوم الرابع عشر من أكتوبر/تشرين الأول. وصلنا النصيرات وحط بنا الرحال في منطقة قريبة من وادي غزة اسمها المخيم الجديد، كان المنزل ممتازاً وهذا سهّل علينا الحياة، لأننا لا نملك فراشاً، ولا نملك حتى ملابس، لكن كانت الصعوبة في طبيعة الحياة اليومية في المنطقة الحدودية، فبعد قصفها انقطع عنها الإنترنت تماماً، ولا يوجد بها إرسال أو اتصال، وهذا فصلني عن العالم الخارجي، وأعاق ممارستي لعملي، وهذا كان بالنسبة لي أمراً متعباً نفسياً جداً أن أكون في منطقة لا أعرف ماذا يحدث حولي، أين هو القصف؟ ما هي الأخبار؟ وأنا التي اعتادت على متابعة الأخبار وكتابتها على مدار الساعة.

كان هذا الأمر متعباً جداً، وطبعاً بدأت تفاصيل الحياة القاسية، لا مياه طوال أيام، ننتظر مياه البلدية حتى تأتي، ونملأ الخزانات من السوق السوداء بأضعاف سعرها الحقيقي. كان هناك صعوبة في الحصول على الغاز، نقف في طوابير لعدة أيام كي نحصل على أنبوبة غاز واحدة. بعد فترة، صار هناك صعوبة في الطعام. كان هناك شح في المواد الغذائية، وبدأت الأسعار الفلكية، كنا نحصل على الطعام بصعوبة والمنطقة نائية وبعيدة عن الأسواق، أيضا موضوع الحصول على الدقيق كان صعب جداً، حتى بأسعار مرتفعة جداً.

غادرنا النصيرات مع اشتداد القصف في المنطقة التي نتواجد بها وبتنا نشعر بالخطر بعد أن أصيب أخي خلال وقوفه في طابور تعبئة أنابيب الغاز، ودخول الشظايا الى المنزل الذي نقطن فيه. نزحنا بعد ذلك  إلى مدينة دير البلح. طبعاً، كان هناك صعوبة لأننا وصلنا متأخرين بعض الشيء حيث انتقل إليها عدد كبير من المواطنين، ووجدنا صعوبة في الحصول على منزل نستأجره، في البداية استطعنا أن نحصل على شقة في منزل، وطلب منا مبلغاً فلكياً، أربعة آلاف شيكل أجرة شقة فارغة لا أثاث فيها، ولا خدمات؛ لا كهرباء أو ماء، فقط جدران. كان خيار والدي أن يدفع كي نبقى معاً، أنا وشقيقاتي وأزواجهن، وأقاربنا في منزل واحد، لكن للأسف لم نستطع أن نكمل لأن صاحب العقار أخرجنا، لأنّ هناك من دفع له أكثر من الضعف، ولم يكن أمامنا إلا أن نفترق، فلا مكان يستوعب هذا العدد الكبير من الأفراد.

شقيقي الأكبر توجه إلى رفح حيث أنسبائه، وذهبت شقيقتي الصغرى مع أسرة زوجها إلى منزل أشبه بحوشٍِ قديم في دير البلح. واستطعنا نحن مع شقيقي الأكبر أن نذهب إلى عيادة "أونروا" في المدينة. طبعاً الأمور صعبة أن تسكن في عيادة مع نازحين آخرين.

العيادة تعمل في الصباح ويأتي لها آلاف المرضى يحملون آلاف الأمراض، فأن تكون في مكان موبوء بالأمراض، كان في البداية صعباً على الصعيد النفسي، لكن هنا يتوفر الإنترنت والكهرباء فعدت إلى العمل فوراً بعد انقطاع قرابة شهرين، والتحقت بعملي في  البوابة "24 " كذلك انضممت إلى إحدى الوكالات العربية الشهيرة وبدأت العمل على ملفات كبيرة؛ ملفات إنسانية... عن حياتنا في غزة. 

* أمنية مسعود/ كاتبة من غزّة

نصوص
التحديثات الحية
المساهمون