لحن الحياة

21 يوليو 2024
سهيل سالم/ فلسطين
+ الخط -
اظهر الملخص
- غزّة تجمع بين الوجع والفرح، تعيش في قلب الصراع وتحتضن الأمل، وتبقى رمزاً للصمود والتحدي رغم الدمار والحروب.
- في مخيم النصيرات، الموت يختبئ وراء الموت، لكن الأمل لا يموت. عبد الرحمن، المهندس الشاب، كان يحمل أزهار الشمس قبل أن يُذبح، وغزّة تودّع شهيداً وتستقبل شهيداً.
- العائلات تتقاسم الجوع والتشرد، وتظهر قصص الفقدان والألم، لكن الأمل في العودة إلى الحياة الطبيعية يبقى قائماً، مؤمنين بأن الحب والإبداع سينتصران.

إلى كلّ المبتلين بعشق القدس، المصابين حدّ الإدمان وحدّ الأمل المزمن بأن يكحّل عينيه برؤيتها. أنا غزّة؛ غزّة الوجع والفرح، وجملة فصحى بوجه الليل، وأجمل قصيدةِ وأروع رواية، بل وأجمل نساء الأرض.

أسكنُ بين الصدى والصوت، أبحثُ في نفسي عن نفسي بين أنقاض هذ الخراب والهواجس. الحياة فيها بلون الجنون، ما بيننا وبينها حربٌ بدون الراء ندفع بعضنا.

غزّة مدينة كوزموبوليتانية، على أبوابها تصخو الشمس، تتجاوز حدود الوطن، تعيش في العالم ويعيش العالم فيها. لم ولن أغادرها، دمي الثمنُ، البيوت تُعدم والمزارع تُسرق والليل قاذفات قنابل يُلغي من التاريخ الزمان والمكان.
أيها الشهداء العـاشقـون.. 

مخيمنا النصيرات ينزف بالأسئلة، الموتُ يختبئ وراء الموت وراء الموت. خلف الموت موتٌ وغزّة مفتاح المرحلة، لا شيء يدعو للأسف، سأعتلي قمة الجبل وأحضنُ بسمة الوادي.

أنا لستُ وحدي يا رفيق، سبعون عاماً لم ننم، دمعي يقول بأن آلاف الشجر تمشي معي خلف الطريق. كالريحان كان حفيدي عبد الرحمن، كان الشهد والشهيد والشاهدُ مع أخته وأخيه وآلاف ما زالوا تحت الأنقاض. من ُلملم الأقمار من الرماد؟ استعجلوا الرحيل قبل كرنفال الحصاد، كان المهندس عبد الرحمن يحمل في يديه أزهار الشمس، ذبحوه في وضَح الكتاب. من كان يحبّ عيد الرحمن فليعمل من غير كلل أو ملل، لا تُوغلوا كثيراً في القبر.. سيعود. الطائرة الملعونة تقصف من جديد، استشهد اثنلن ونجوتُ وعبد الرحمن.

غزّة تودّع شهيداً وتستقبل شهيدا.

كان عبد الرحمن يصلّي ويغنّي.. كان ترنيمة السفر، كم كان يحلم بيوم التخرّج ليُدخل البهجة والسرور في زمزم أمه وأبيه، فهُـم من عاشوا جلّ حياتهم في الغربة ليتمكّنوا من تعليمه وأخته في جامعات غزّة. عادت الطائرة من جديد، صاح نازحٌ أربعينيّ من الشمال،  كان قد انتهى من لحد ابنه.. احتموا بالقبور، أصيبت امرأة من بقايا شظايا القصف واستشهد القبر الذي بجانبها، وانتهت الغارة. اقتربتُ منه وسألته هل أستطيعُ مساعدته في شيء. قال والدمع يترقرق في عينيه: يا ربّ. هذا آخر العنقود بين يديك، ثمّ وجّه حديثه إلينا قائلاً: اسمه سعيد، كانت ابتسامته تحفر نفقاً وتبني سوراً. قلت معزياً: البقاء لله. كلّنا على هذه الطريق، الحق والحق أقول إنني تقيأت أسئلة كثيرة كانت تترنّح في داخلي، لا وقت للدموع فالدمع يخنقه الرصاص ودعاء الصابرين.

نـزلَ الـمطر والمطر لحنُ الحياة. غزّة الوسادة والقبر، نارٌ تسيل بلا رماد أو لهب. لم يبق فيها إلّا الحصيرة... دعـوتُ أبا سعيد إلى منازلنا فأبى، ثم واافق على مضض، حاولتُ أن أهـدئ مِـن روعـه، قلتُ: الحرب يا صديقي لا تعرف الخوف. سأطلق سراح جدّتي، وقبل أن أكمل مسحتُ المخاط عن أنفي بتذمّر، في الحرب يا صديقي، أتعلّق بأستار بعوضةٍ ومؤخرة لمبة كهرباء. لمحتُ جرعةً من بسمة على الرجل مع أنه حاول أن يخفيها، وهذا ما شجعني على مواصلة هذياني.

هل تعلم أن كلب جارتنا يرتجف من شدّة النباح على الطائرات، يا للحسرة أقسد اللحظة شيخ جاوز الستين من العمر، كان الـتـعـبُ بـادياً على وجهه البشوش، يسألنا كيف الذهاب إلى رفح، احمرت عيناه من شدّة الصلاة، وقبل أن أجيب أقسم بالله أنه ترك أحـد أبنائه ميتاً في الشمال، غطّاه على سريره وأقفل باب الشقة خلفه، قلنا: مات.. قال نعم. لكنه ما زال حيّاً هكذا اختلف الرواة. دعوته لبيتنا فلم يتردد. قال: هذا النزوح االثالث لي بدأته أنا وعائلتي من مستشفى المعمداني، نجوت بأعجوبة، نزحتُ بعدها إلى مستشفى الشفاء واليوم من النصيرات إلى رفح. وصلنا إلى المنزل وأنا أردد: كلّ شيء رخيص.

في هذا النهار الأسود، نهار مملوء بالحوقة، صنعت لنا زوجتي الشاي على عجل، وأمي تصرخ: لن أبرح هذا البيت، يكفي ما جرى لنا في 49، لم يزل الطوفان والوتد، هيّا يا رجال ابقوا معنا نتقاسم الجوع والتشرد والسغب. أخذنا نتبادل نظرات الاستغراب في وجوه بعضنا والصمت فاغرٌ فاه.

دَقَّ الـبـاب. صوتُ فـتـاة: أنا غريبة. مات أهلي جميعاً وجئت سيراً على الأقدام، انتفضت أمي كالذي أصابها مسّ من الجنون، رغم أنها على كرسي متحرك، قفزت وفتحت الباب. كانت فتاة مصل قطرة من مسك وراق الخرف. يا لله، كم حسناء أرداها التسوّل للرغيف. غزّة الفاتنة ونهر السكاكين.

لم أسأل الحسناء عن اسمها. من أين أنت وماذا تريدين؟ من غزّة فصاعداً لن أسأل من كرهوا الحياة وأمّلوا فجر النجاة. غزّة فجرها زغرودة مصلوبة على سيف المحن. لي حقي وذاكرتي، ليس ينساني الرعاة.

لقت الحسناء نفسها في حضن أمي.. أمي كسفينة نوح تجمعنا في مخالبها على جناح دوري استشهد على قارعة الليل بالقرب من ريش حمامة بيضاء من قميص نومها الأسود.

أماه قالت الحسناء. لا وقـت فـيـنـا للعـزاءْ، نحن ملح الفقراء. ملح الهجرة الأولى. تغريبة بني فلسطين الشموع. ترقبنا الحكايات الكسيرة. في الصباح تناولنا جميعاً الخبز مع أكواب الشاي وما تبقى من الزيت والزعتر.

غزّة، على أبوابها تصحو الشمس، تتجاوز حدود الوطن، تعيش في العالم ويعيش العالم فيها

وبعدما أنهينا فطورنا. اقتربت أمي، قبّلتُ يديها وجبينها. يا أمي الطائرات ألقت مناشيرها علينا نحن. منطقة خطر، ساحة حرب ولا بد مما ليس منه بد. هجر جميع من في الحي والشاحنة بباب البيت. قالت الحسناء: اخْـلع االقرية الظالم أهلها وترمّل.

أصابتني قشعريرة دهشة وجنون ونحن نمتطي الشاحنة إلى دير البلح، وأعلم علم االيقين أن سيل الأسى بلغ الزبى في رفح. عدنا لغبراء الزمان وداحس ما زالت ترعى الاحتفال.

الرصاص يصادقنا وحائظ يتربع فوق الاسفلت والموت على قائمة الانتظار، وما زلتُ في غزة التي لم يبتلعها البحر والصاعدة إلى سدرة المنتهى. ما أروع الموت المشتهى حين يكون هو الحياة. لن ندفن رؤوسنا في حبة سمسم أو خروع، سنزور الليل في عقر داره، لم يكن السفر وردياً من شدة الزحم. الموج يصفع بحره حزنا على غرق السفن. جلست الحسناء ترتل بصوت حريري وهي تسند رأسها إلى ضحكة أمي: " يا ظريف الطول وقف تأقلك، رايح ع لغربة وبلادك حسنلك، وشيخنا يدندن: "من سجن عكا طلعت جنازة.. محمد جمجوم وفؤاد حجازي..".

في الأثتناء، تسلل إلى سمعي صوت أمي: يا ولدي الجزائر تمسح الحزن عن فلطسين.. تناسل عاشقين. صرخ السائق لا زلنا على قسد الأمن. من أحرق شفاه الأعراب؟

آن للعربات أن تصحو فالصحو قبل الموت موت. لا بد من الصحو لتصبح إنسانا. وفجأة توقف الشيخ عن الغناء وقال: لا حول ولا قوة إلا بالله. ما الأمر صحت وصاحت الحسناء.. لا. مستحيل، غزة لا تموت لكنها اليوم ماتت.. عظم الله أجرنا وأجركم جميعاً، توقفت الشاحنة وحدقت عيون الجميع نحوي. قلت ما بالكم. قالوا أمك وأمنا جميعاً ماتت. من. حسبنا الله ونعم الوكيل.. بدأوا يتهامسون عن مكان الدفن، أين ومتى. هنا هناك.. في الحنوب، في الشمال.. لا حول ولا قوة إلا بالله.
ما أطهر هذا الجسد المسجّى بنور الله. تمزقت لغاتنا تمزق المحال والجمال، لا مناص من توحيد كلامنا، لا بد من قرار فهنا السنابل قد أبيدت وما تبقى أصابها بعض الدوار.

حضنت أمي والريح بين كفي دمعتان ونحلتان، جمر ونار فمن سيبدأ بالقرار. يا من جئت على قدر تسعى الحور تركض في الشوارع. عجل بالقرار. أرجوكم لا تبيعوا لحاف أمي الممرع بالدم. لا تمشوا على البساط الأحمر فليس من السنة. يا هذا هل تدري الحزن على أمي يدخلك الجنة.

اقترب مني أحد الركاب من السيارة التي أمامنا وقال: أمك، يرحمها الله، وعظّم الله أجرنا وأجرك والخاطر واحد. ثم أردف قائلا: الموتى دفعوا ثمن موتهم لكن ما هو ثمن الموتى. أي ثمن يمكن أدفعه أنا.. ما هو ذنبي؟

هل ذنبي أنني بقيت على قيد الحياة؟ كيف لي تدبير أمري في الشتات وأبي يتحسس رأسه مع طفلتي كلما مرّ صاروخ لعين. لا ماء، لا خبز، لا حطب، لا غاز. مـا أجمل ذاك البرواز وأشار بيده التي بُترت من القصف على سيارته المهمشة، هل تعلم أن السيجارة الواحدة بعشرين دولاراً. تلك أبعاد المؤامرة، غزة المدينة المهاجرة، لا بد أن نعيش، غداً سنذهب للعريش، قالت الحسناء: تلك أبعاد المؤامرة، سنلهو على شواطئ سيناء الساحرة. بدأت الشاحنة في التحرك وأنا أفكر في قبر أمي.

وصلنا رفح وأنا كنت أنوي الذهاب إلى دير البلح.

نطرتُ إلى الفتاة ويا لهول ما رأيت.. هناك لون أحمر فوق الشفاه، يا للسماء كانت بقايا من دماء. تبسّمت وقالت: لا للحرب، لن ننكسر، سنبقى واقفين في الشمس ننتظر القمر، بالحب والإبداع ننتصر، شاء من شاء وأبى من أبى، واللي مش عاجبه يشرب يا فايق من البحر.

نصوص
التحديثات الحية
المساهمون