عن الحذاء والذباب والسكر المفقود

29 يوليو 2024
عمل للفنانة الفلسطينية ملك مطر
+ الخط -

اشتريت حذائي مرتين

خرجنا من البيت ولهاثنا عالٍ جداً، لهاثنا يشبه نفخ تنين بعيون حمراء، سائق الشاحنة كان نزقاً جداً، فعجّلنا بالخروج من البيت، فلم نأخذ كل أدواتنا [حاجتنا] وتركنا خلفنا ملابسنا الصيفية، خاصة أحذية المناسبات، كانت في علبة كرتون تحت سرير في غرفة النوم، خاصة أمي التي تركت خلفها في خزانتها البنية المزخرفة بنحت فرعوني قديم، أثوابها المطرزة بالحرير الأحمر والأزرق، مكحلتها النحاسية، كان عندنا اعتقاد أنّنا لن نغيب كثيراً عن البيت سوى يوم أو يومين، حتى تهدأ الصواريخ وصوت القنابل والزنانة التي كانت تلاحقنا في كل مكان، عندما تحركت الشاحنة بدأ شعور بعدم العودة إلى البيت يكبر، بالفعل صرنا جزءاً من تاريخ النزوح الحديث أنا وعائلتي، وتغير الحال من بيت فيه كل ما تحتاجين إليه للحياة ناعمة ومريحة إلى خيمة من قماش وأخشاب ونايلون.. بدأت ملابسنا وأحذيتنا التي جلبناها من البيت ليلة الهروب تهترئ، وكانت العودة صعبة إلى البيت لجلب أشياء أخرى، سمعنا وقتها أن البيت كله قُصِف فصار غباراً، ذهبت إلى السوق لأشتري حذاء، وأنا أتقلب على المعروض في السوق تجد أنهم يعرضون أشياء من أدوات كهربية وكاسات الزجاج وأدوات المطبخ تعرفها، لأن في الحرب انتشر بعض اللصوص، يسرقون البيوت المقصوفة، وأكيد بيتنا كان له نصيب من النهب والسرقة، فجأة تصاب بصاعقة كبيرة تظلّ واقفاً من دون حركة، تجد حذاءك الماركة الإيطالية الأسود اللامع الذي اشتريته بمبلغ كبيرة لمناسبة زفاف أختك الصغيرة، فأنا أحب هذا الحذاء لأنه جعلني مثل آل باتشينو، هممت ناحيته وحملته وقلت للبائع: هذا حذائي من أين جئت به؟ وقبل أن أكمل كلامي رفع سكيناً في وجهي وبصوت أجش: أنا اشتريته من رجل وأريد أبيعه وأربح به، الذي سرقه من بيتك غير موجود. 

الأيام ثقيلة في النزوح، تنزل دموعك بدون سبب، من القهر الذي تعيشه في الخيمة

وقفت برهة من الزمن وقلت في نفسي علّي أشتريه بأي ثمن، بالفعل اشتريت حذائي مرتين، وحملته إلى الخيمة، لكن في الحرب لا يوجد مكان للمناسبات السعيدة.. كل الذي أخافه في هذه الحرب أن تطلب مني أمي أن أذهب إلى البيت وأحضر لها أثوابها والمكحلة النحاسية، ماذا سأقول لها!


■ ■ ■


شركاؤنا في النزوح

الأيام ثقيلة في النزوح، تنزل دموعك بدون سبب، من القهر الذي تعيشه في الخيمة، وقتها عليك ترك أسلوبك في الحياة قبل النزوح (مزاجك) وتضعه في علبة كرتون وترميها مع علب الكرتون المعدة للنار مع قطع الخشب، ولأن الأيام تدور بسرعة تصبح مراقباً جداً لما حولك، في بداية الأمر تعد الخيام من حولك، بعدها تعد كم شخصاً يسكن في الخيمة الواحدة، تمل من العد، بعدها تصبح متأملاً للنجوم والكواكب وتكتشف النجوم والدب الأكبر والدب الأصغر وتتعجب كيف كانوا في القديم يستدلون على الشمال، تزهق من النجوم والكواكب ولون السماء، تتطور بسرعة وأنت تراقب من حولك، تجد أن هناك شركاء لك في مخيم النزوح، منهم الغرابان الزوجان اللذان يمتلكان المنطقة ويمنعان أي غراب يدخل على منطقتهما وكم معركة صارت، المفاجأة أن الغرابين يأكلان بقايا معلبات الفاصولياء والبازلاء والأرز المصري وبقايا التونة وتقدر أن تفتح بمنقارها العلب المعدنية لأي طعام، في وقت صرخت فيه سيدة من إحدى الخيام لأنه لدغتها حشرة كبيرة اسمها أم أربع وأربعين، حشرة جميلة طويلة قريبة لصغير الحية، بالفعل لها أرجل كثيرة ومتناسقة بجسم انسيابي أسود ناعم الملمس، لكن عليك قتلها، لكن يوماً بعد يوم تكتشف أنك تعيش في مملكة أم أربع وأربعين، ومن أجمل الشركاء زوجا الحمام البني، لونهما جميل لكن هديل الحمامة الأنثى قريب للنواح بل لعبارة "يا خيبتي يا خيبتي" وبالفعل هديلها ينذر بثقل الخيبة التي نعيشها في مخيم النزوح، أمّا هذا الشريك الثالث فهو الخنفساء العملاقة الكبيرة السوداء عندما تدخل عليك الخيمة تقف كالمسمار خوفاً منها والصغار يرتعبون، ولأنك رجل الخيمة عليك أن تحمل هذه الخنفساء بحذر خارج الخيمة، ذباب الصباح هو الشريك الأكثر كرهاً من النازحين، لأنه طوال الليل لا نعرف النوم خوفاً من القصف وننتظر الصباح حتى ننام، لكن يأتي الذباب يهجم عليك من كل مكان حتى يجعلك فريسة للأرق وقلة النوم، حتى وأنت في النزوح ومغلوب على أمرك ومجبر على العيش، والشريك الأخير هو غير حيوي لا يمشي ولا يأكل ولا ينام ولا يتكاثر، إنه الرمل الأصفر الخشن الذي تجده بين أصابع قدميك طوال الوقت، تجده في أذنك، في جيوبك الخلفية والأمامية، يرسو في الأحذية، يشاركك الفراش، وأيضاً في أدوات المطبخ من كاسات وطناجر، في بداية النزوح كنا نحاول أن نتخلص من الرمل الأصفر لكن مع الأيام يصير صديقاً لك في كل وقت، فتقبل به لا غنى عنه، إن فكرة شركاء لك في الحياة أقصد شركاء في النزوح، شيء جديد على حياتنا، لكننا نعيش معها. 


■ ■ ■


أغنية ونصان 

تفرك أرنبة أنفك في كل لحظة من لحظات الحرب المتواصلة، ليس للتفكير فقط، ولكن من الغبار المنتشر في الشوارع، تصاب بمتلازمة الزكام، لأن جرافات الاحتلال حين تدخل إلى أي مكان تعيد الطرق المعبدة والبيوت إلى بدايتها الأولى، غبار ورمل، تُفاجَأ كيف في لحظة تتحول المادة الصلبة من الإسمنت والحديد إلى غبار ورمل، كيف تغوص بيوت كبيرة تحت الأرض ولا يظهر منها أي شيء، وقتها تحك أرنبة أنفك وأنت تتأمل هذا الدمار، الذي يشبه زلزالاً كبيراً، لكنه زلزال أعور، لأنه يدمر خمسة بيوت ويترك بيتاً واحداً من دون أن يصاب بأذى، لكن في المقابل البيوت الخمسة المدمرة ينجو سكانها من الموت، أما البيت غير المدمر يموت سكانه، فتكتشف معادلات غريبة تحدث أمامك لا تفسير لها ولا يمكن لعلماء الرياضيات حلها.  

إن فكرة شركاء لك في الحياة أقصد شركاء في النزوح، شيء جديد على حياتنا، لكننا نعيش معها

وقتنا كله من دمار وقصف متواصل من دون توقف مثل طائر نقار الخشب الذي ينقر آلاف النقرات ليُحدِث ثقباً صغيراً في شجرة ليبني عشاً أو ليخرج دودة ليأكلها، لكن هذا القصف المتواصل لا نعرف ماذا يريد بالضبط منا. الناس وقت الحرب هربوا إلى جهات باعتقادهم أكثر أمناً وحماية، الكل يدل الآخر إلى الأماكن الأكثر أمناً، يلتصق الناس بعضهم ببعض، في كل متر واحد تجد عشرة أشخاص يمشون ويركضون ويصلون ويغتسلون ويأكلون وينامون ويضحكون ويبكون وينامون في هذا المتر الواحد، حين أرى هذه الزحمة المرعبة، أتذكر أغنية [أحمد عدوية] زحمة يا دنيا زحمة وتاهوا الحبايب، وأكررها في كل وقت خاصة وقت الزحمة. 

جلب لنا النزوح [الطوابير] التي تجبرنا على الوقوف فيها. طابور على الماء الحلو، وطابور للحصول على الخبز، وطابور للحصول على الدواء المجاني، والطابور الأكثر شراسة ورعباً طابور الحصول على الكابونة [السلة الغذائية]. تقف ساعات وساعات وقد تصاب بضربة شمس وإغماء للحصول عليها، وقتها أتذكر نصاً لمحمود درويش بعنوان "لا شيء يعجبني". عن جد لا شيء يعجبني في مكان النزوح. 

فجأة وبدون سابق إنذار تختفي البضائع من السوق، ومنها السكر، هذه السلع الأكثر طلباً للنازحين. يا سلام حين تشتاق أن تشرب كأساً من الشاي محلى بالسكر وأنت تجلس أمام خيمتك، والأكثر تعاسة أنك لا تجد سكراً في أي مكان، فأتذكر نص صديقتي الكاتبة [هند جودة] لا سكر في المدينة، وأقول وقتها لا سكر في الخيمة ولا ملح للحياة...
 

* روائي من غزّة

نصوص
التحديثات الحية
المساهمون