حكايات أيلول

15 اغسطس 2024
عمل للفنان الفلسطيني معين حسونة
+ الخط -

تريد أيلول العودة إلى البيت وتبكي، كيف أخبرها بأنه لم يعد لنا بيت، لم يبقَ لي حتى الصور. ويطلب مهدي كتاب الصور الخاص به، يقول: ماما تاب "كتاب" بفة "قطة"... تمزق كتابك يا صغيري. اختفت كلّ الصور والقطط التي كنت تلاعبها. انقطع أثرها عن أسوار المنزل التي اندثرت تحت أكوام الركام.

جئت أشيّع جثمان بيت ولا أستطيع أن أواري ذكرياته خارج روحي، أمسح أصابعي برفق على الحائط المحني وعلى الشقوق، وأفكر بجدّية كيف كانت لحظاته الأخيرة قبل القصف، هل شلّ الخوف أبوابه والنوافذ؟ هل بكت الغرف فزعاً أم انتظرت موتها بشجاعة.

أخلينا المنزل بعد إنذار للجيران، لم يخبرونا أننا مستهدفون، خرجنا منه ظناً بأننا سنعود بعد دقائق وقد تضرر جزئياً إثر القصف على البيت المجاور، لو عرفت أننا خرجنا بلا عودة وبلا وداع، فوالله كنت قبلته حجراً حجراً واحتضنته مرة تلو أخرى.

مرّ على قصف منزلي شهر بالتمام وكل يوم يزداد الحنين شراسة، ينبش بأظافره ذاكرتي يحفر فيها حقيقة بشعة

لقد اغتالوه وحيداً، في لحظة كان يتنفس بداخلي، وفي اللحظة التالية تكوّم جثة هامدة. ولأيام طويلة ظللتُ أجيب من يسألني هل تحتاجين لشيء قائلة: أجل، أريد منزلي. وما كان لأحد أن يعيد لي ما فقدت، فواسيتُ نفسي بأنني لست وحدي إلا أن ذلك لم يفدني أبداً، البيت هو البيت بفكرة الجدران الأربعة والسكينة وكل ما نحب.

أفتح عيني كل صباح على أمل أن أجدني في منزلي على فراشي، أسير في طرقات جميعها كانت تؤدي إلى البيت، لكنني الآن أتوه عنها إلى بلاد غريبة، أروّض قدميّ كي لا تمشي في ذات الشوارع التي حملتني مسبقاً إليه. أفتح ملاحظات الهاتف وأحاول الكتابة وكل ما أحصل عليه هو طلاسم تدق في رأسي، وكأنني كنت كاتبة في عمر آخر، عشتُ هذه التفاصيل في بعد زمني مختلف تتسع الهوة بيني وبينه، وكأن ما مر لم يكن أياماً فقط.

ما سقط لم يكن منزلي، لقد كنت أنا من سقط. عندما أحرقت المدفعية بيت جدي بكيت يوماً ونعيت ذكريات طفولتي أسبوعاً كاملاً، وبعد أن ضربت القذائف بيت أهلي أمضيت أسبوعاً أبكي وشهراً تاماً أفكر بذكريات الصبا والشباب. مرّ على قصف منزلي شهر بالتمام، وكل يوم يزداد الحنين شراسة، ينبش بأظافره ذاكرتي يحفر فيها حقيقة بشعة، وما زلت أحاول أن أصدق وأهدهد حوارات أيلول وعبء طفولتها يجثم مثل جبل على صدري.

- بابا أنت رايح على الدار؟

- لأ

- طيب الدار لسه مكسرة؟

- اااا...

- ماما وين ألعابي البطات والدعسوقة؟ راحوا بالقصف؟ ماما ليش بتلبسيني بوكسرات كبار وين بوكسراتي؟ ضلوا بخزانتي؟ ما شفت أواعيا وينهم يا ريت شفت خزانتي، وينها صح راحت بالقصف.

- بابا ليش ما أخدت عصفوري لما طلعت! 

- أيلول إنتي عارفة شو صار في العصافير؟!

- آه ماتوا

- ا...

أو حينما تمسك الهاتف وتنادي: سيدو تعال أورجيك صور دارنا وداركو مكسرين.

تطور وعي الصغيرة سريعاً وفهمتْ خلال الوقت أن عودتنا إلى هناك مستحيلة، ومع الاجتياح للمناطق الشرقية وللحدود ونزوحنا للمرة الرابعة خلال شهر، وتجهزنا للنزوح الخامس استعداداً للخروج الأخير من رفح، باتت الحوارات أشد قسوة.

- ماما وكتيش بدنا نروح على الدار، مش دارنا المقصوفة في البرازيل لأ، على الخيمة اللي حكيتي عنها عند تيتة وبابا.

- خالتو الطيارة الصغيرة بعيدة في السما قصفت كل ألعابي، ما ضل عندي ألعاب ولا حتى وحدة، أنا بسمع صوتها بخاف وبتخبى عند ماما.

أيلول التي بكت وصرخت إلى جانبي، وأنا أنهار على عتبات منزلنا عندما فتحتُ الباب الذي ظل واقفاً بخجلٍ، ودخلنا إلى ساحة المنزل لنقابل الركام مشدوهتين نتساءل ما بال وجه المنزل متسخ هكذا؟ أين الباحة الواسعة؟ أين ممر بيتنا وأين ملامحه التي نعرفها ونحفظ أدق تفاصيلها.

لم أترك يدها وأنا أنتفض من الألم، أنحني على الأرض المتشحة بلون البارود أتقيأ قهراً قبل أن أجر جسدي وأعدو هاربة من أمام أنقاض البيت أم هل أقول "أنقاضي"؟!

لست بهذه القوة ولا بهذا الجبروت الذي يفرض علينا، لست مجبرة أن أخبر أحداً أنني صامدة في وطن لا بيت لي فيه ولا زرع يتيماً دفن أسفل طبقات الحجارة المهروسة. فكلما فكرت في المنزل الذي انتظرته تسع سنوات كاملة ولم أهنأ به سوى ثلاثة أشهر قبل الحرب أشعر بأن هناك ما ينجرف مع الطوفان، أضع يدي على معدتي وأجبر عقلي على التوقف عن التفكير هلعاً أن أنفصل عن واقعي في محاولة لإنكار ما يحدث معي، أمنطقي ما يحدث معنا!

صورة قديمة بالأبيض والأسود وفي نشرة الأخبار، صرت أنا الخبر العاجل، إشارة نصر هزيلة تتأرجح

لم أعد خارج اللوحة بل جزء لا يتجزأ من المشهد. صورة قديمة بالأبيض والأسود، وفي نشرة الأخبار، صرت أنا الخبر العاجل، إشارة نصر هزيلة تتأرجح على ألسنة الإنسانية المقطوعة منذ شهور. فسلام لقلبي ولقلب أيلول ذات الثلاث سنين.

شهر كامل مر على دمار منزلي بشكل كلي، شهر واحد نزحت فيه مع أطفالي قسراً أربع مرات متتالية، ويا لسخرية القدر، التاريخ ذاته تحديداً يُتوج بالنزوح الخامس والخروج الأخير من رفح إلى خيمة لا تصلح للحياة، كانت الليلة السابقة للنزوح عصيبة جداً على استيعابنا، قذائف صوتية وأحزمة نارية تعني عدة صواريخ متتالية تسقط في مكان واحد، لم أستطع النوم وأشك أن شخصاً استطاع النوم منذ دقت الساعة الثانية فجراً وبدأت الحفلة كما أسميناها.

يدٌ على قلبي ويدٌ تتابع مهدي الصغير وهو ينتفض مع كل صوت أو انفجار، صار الخوف مرادفاً للحياة هنا، مهدي الشقي الذي أدور حوله مثل نحلة من الصباح حتى المساء، لا يكل ولا يمل من القفز وأنا خلفه أصرخ وأرمم ما أفسدته يداه.
قبل يومين سقط مهدي في بانيو الحمام، رأيت جرحاً في الذقن لم يقطر دماً غزيراً لكنني كنت أرتجف كما حالتي عندما يصاب أحدهم بجروح، رفض والده اصطحابه إلى المستشفى معللاً أنّه لا حاجة لذلك لكن في اليوم التالي، لأنّ طفلي لا يستكين في مكانه لدقيقة واحدة صعد إلى مكتب خشبي وفُتح الجرح مرة أخرى.

حملته وركضت إلى عيادة الأونروا، وطلبوا مني التوجه إلى المستشفى الميداني الأميركي لأن جرحه بحاجة إلى غرز طبية، قبل أشهر في منزلي سقط وجرح أسفل عينه وحماه الله من إصابة خطرة، بعد أيام سقطت أيلول عن كرسي وأصيبت في جفنها العلوي وتركت علامة واضحة وبعد أيام كانت تركض وراء ابنة خالتها وزلّت قدمها وفُتح جرح أسفل ذقنها وتركت ندبة أخرى. كل هذه الندوب حملتها بداخلها أرى أثرها واضحاً مثل خيط الفجر حين يشق بطن الليل، ومن بحاجة لندوب إضافية في خضم ما يحدث.

عندما اشتد القصف تذكرت شعوري وأنا أراقب الأطباء الأربعة يحاولون الإمساك بطفلي لتقطيب جرحه، يصرخ وتلقائياً وضعت يدي على بطني أتحسس خط السيزيريا، كم تمنيت لو تتحول إلى جراب أستطيع وضع أطفالي فيه والقفز بعيداً، بعيداً جداً.

من مكاني بين رفح وخانيونس في ما يسمى بالمنتزه الإقليمي اختتمت نزوحي الخامس بخروجنا إلى مكان حدوده سحب الدخان الأسود المتصاعد من غرب رفح، نفترش الأرض وتغطينا السماء لكن السماء قنبلة موقوتة قد تنفجر مخلفة شظايا وأشلاء بشرية.

على امتداد البصر خيام ومعسكرات، أقمشة فراش وستائر ضحى بها أصحابها وصنعوا منها خياماً تسترهم، أغطية لفوا بها الأخشاب ثم حولوها لغرفة يستخدمونها للنوم والطبخ والعجن والأكل والجلي، لكل شيء ما عدا الراحة فلا حائط يستطيع المرء أن يسند ظهره إليه، ولا هدوء يسدل أستاره على أوقاتنا، حرب طاحنة وعالم سُرقت منه الألوان. يقتلني التفكير في كل شيء، فكل شيء شقاء وجهاد.

الساعة الثانية عشرة ليلاً نسمع صوت انفجار قوي تهتز الخيم وترتعش أرواحنا فنركض خارجاً، وفي ظل انقطاع الإنترنت والاتصالات أشعر كأنني في العصر الحجري فلا نعرف ما يحدث ثم نعود للنوم واجمين. يتكرر ذات الحدث الساعة السادسة مساء في اليوم التالي نهرع خارجين من الخيم وننادي أيلول من أمام الباب لتدخل ونهمس بيننا "كأنه القماش هادا هيحمينا!" نراقب المروحية تجول وتلتف في سمائنا وفوق بحرنا وتعود لتطلق نيرانها ويلفنا الصمت.

ينطلق الصغار بين الخيم يبيعون الترمس والفستق المحمص والعوامة وأصابع الحلبة. في البداية كنت أسمع أيلول تعيد وتكرر ما ينادي به البائع ثم صارت تطالبنا كل دقيقة أن نشتري لها:

بابا بدي حليب
بابا بدي عوامة
بابا بدي فستق زاكي
بابا بدي عصير متلج

أقف متوعدة ومهددة " بكفي، أكلتي كتير، بكفي مش عارفة نظيف ولا لأ"، فتأتي باتجاهي ضاحكة وتلقي بنفسها بين ذراعي وتقول: "ماما اشتريلي".

ألين وأقول: "حاضر، كم لولو عندي، مش بكفي الحرب عليهم".

مرّ اليوم... أحدهم يبيع مكملاً غذائياً، ويبدو أنها لحقت به ولم تعرف طريقاً للعودة. أجل ضاعت العزيزة أيلول، كنت أقف في الساحة أتحدث مع والدها وجدتها في حوار بدا ذا أهمية آنذاك حينما صعد سؤال إلى حلقي من دون مبالغة ثم هوى إلى عمق من دون قرار.

سألتُ فجأة: أين أيلول؟

نظرنا الى بعضنا قبل أن ننهض بوتيرة واحدة. ذهب والدها غرباً وتوجهت أنا شرقاً، ناديت حتى لطم الصدى وجهي، وصاح منادياً: خاوية خاوية. خرج والدها الى الشارع يسأل وصعد جبلاً من البسكورس يلعب فوقه أبناء عماتها، رأيته يستدير ويعود، بجانبي، كان مهدي الصغير يجذب بنطالي فحملته عائدة وألقيته في حضن جدته وهرعت إلى أزقة المخيم.عاد والدها خالي الوفاض وضوء النهار يتسرب إلى البحر.

لا أيلول، إلا أيلول...

يضيع الكون والبيت والحياة وتظل الأيلول، رأيتُ والدها قادماً منكساً أعلامه وتذكرت لحظة قصف البيت حين عاد يشير إلى صدره يقصد "بيتنا الذي قصف"، نظرت جيداً ارتفعت أصابعه لتشير إلى نقطة خلفي، والتفت. كانت أيلول وسط رهط من الرجال السمر تدب دون حذاء في الرمل الأبيض بأصابعها المصبوغة باللون الأحمر وبدت عيونها الكورية أشد ضيقاً لا بد أنها بكت بشدة.

ركضتْ باتجاهي ودفنت وجهها في ملابسي وبقينا عالقتين نحن الاثنتين حتى تجمع الناس حولنا وسمعت أحد الرجال يقول: "البنت شاطرة حكت اسمها أيلول محمد المنيراوي، حتى اسم أمها حكته، كنا رايحين نسلمها للشرطة". ضغطت على يدها وقد امتزج قلبي بطعم مرير وعدت إلى الخيمة، وكأنني في نصف ساعة سلخت عني عمراً كاملاً من عمري.

أول مرة وصلت إلى المواصي التي طُلب منا النزوح إليها كان الجو بارداً والخيمة شديدة الاتساخ، بكيتُ لساعاتٍ حتى اصفر وجهي وغدا قلبي فارغاً، وفي الصباح بدأت الشمس تدق أوتادها في رأسي وكان ينزف جسدي عرقاً مخضباً وتشتعل النفس بحرقة، لأكثر من خمس ساعات يومياً نشوى تحت أشعة الشمس مثل أكواز الذرة، تُدق الأوتاد في رأسي وتصرخ الجيوب الأنفية باستغاثة فاشلة، كلما حاولت أن أنحني بسجدة أو انحناءة قصيرة يصير للوجع حكاية صارمة، أنشج بصمت وأتقوقع على نفسي دافنة قدمي في الرمل أبحث عن ظل في صحراء من سعير، لا ماء متوفراً فأسعاره أضعاف ثمنه الحقيقي، والرمل الأصفر يلفظ زجاجاً وحرارة، بينما يتناوب المئات من الذباب في هجومه علينا ويرتمي على طعامنا ويضرب وجوهنا، يقرص الألم قلبي وأنا أطارده ليبتعد عن الصغار بلا نتيجة.

يجمع النهار أطراف ثوبه متأخراً ويرخي الليل جدائله وعلى استحياء يخدش الخوف أفكاري، تغزو أصوات الانفجارات السماء بجنون، أنكمش في زاويتي ويأكل البرد أطرافي ولا أملك ما يقيني وأطفالي سُمه. نختبئ أسفل قماش دفعنا فيه كل ما نملك لنعيش في الشارع بشكل نحسبه أفضل من الرصيف، حياة من دون أدنى مقومات الحياة، لا ماء لا طعام لا أمان. فقد ألقونا في الصحراء بدون أي شيء، يدور مهدي حول عمود الخيمة في المنتصف تماماً ويغني:
 
"أنا النحلة أنا الدبور
وين مسافر
ع اسطنبول " 
وتطفو أيلول في دورانها حوله مرددة
"دور دور دور 
دور يا صحن السكر
والصحن كان مدور
متل البدر المدور
عبيته من التوتة 
والتوتة حلوة حلوة
متل السكر".

انفجار يصم الآذان نتنهد بقوة، ويختبئ الصغار في حضني، تهتز الخيمة مع كل قذيفة، أقول ساخرة: "من رمى برميل ماء من سطح منزله؟" وتعلق أيلول كلّ ليلة قبل النوم: "ماما خايفة الخيمة توقع عليّ وعليكِ".

أستودعني وأطفالي وأحاول أن أنام.


* كاتبة من غزّة

نصوص
التحديثات الحية
المساهمون