توتو تحت الأنقاض

18 يوليو 2024
رسم للفنان عماد حجاج
+ الخط -

مرحبًا عزيزي 

ربّما لا تعرِف الحقيقة الكاملة عن الحرب في غزّة، فالحرب ليست دماءً هنا أو استغاثة هناك وانتهى الأمر، الحرب أكثر من ذلك بكثيرٍ يا صديقي، الحرب هنا تُشبه الدقائِق الأولى من يوم القيامة، والحقيقة أن لا فرق كبيرا بين حرب غزة ويوم القيامة عدا فرق وحيد، أن الجميع يوم القيامة يكون مشغولاً بنفسه، أمّا هذه الحرب فالكلّ مشغول بعائِلته فقط، الشهداء هنا يرحلون دون وداع، الوداع يا عزيزي رفاهيّة الموت البطيء، في غزّة الموت سريع جدًا، محظوظ من يحظى بوداع صغير، فالوداع الصغير يؤجل الاشتياق الكبير.

أكتبُ إليك هذه الكلمات وغزّة تُمطَر نارًا بلا توقّف طوال الليل، كأن السماء مثقوبة من جهة الجحيم، وتتساقط فوقنا حِمم النّار، المؤسف في هذه الحرب يا صديقي أن الموت في النهار أجمل من الموت في الليل، لأن وهج الصاروخ في النهار يخبو أمام وهج الشمس، فنموت دون رُعب اللحظة الأخيرة بعد الضوء المُخيف، أمّا الصوت فليس مخيفًا كثيرًا، لأن الأموات لا يسمعونه على أيّ حال، عكس الأحياء الذين يشعرون بالراحة لسماعِه، فسماع صوت الصاروخ يعني أنّك نجوت هذه المرّة، أعرِف أنها تفسيرات غبيّة لمعنى الحياة لكنّها الحقيقة، صوت الصاروخ يعني أنّنا ما زلنا على قيد الحياة، بهذه الوضاعة نفسّر بقاءنا، لا تستغرِب!

الصوت ليس مخيفًا يقول معظم الناس، المُخيف في الصاروخ ضوؤه، فالضوء له أشباه كثيرة، جميعها مؤذية للقلب قبل العين، اللون الأحمر منه يُشبه الدم الطازج الذي يملأ الشوارع والنوافذ والشاشات، أمّا اللون البرتقالي فيُشبه النار المُشتعِلة تحت قدور الوجع في خيام النازحين، فيكرر عليك مشاهِد المأساة كل يوم، نحب الصاروخ الذي يقتلنا بلا ضوء، الأضواء في العالم جميلة ومبهجة، لكنّها في غزّة وقحة وقاتلة.


مرحبًا صديقي توتو؛

أنا بخير إن كُنت تسأل عنّي، رغم أنّك لا تفعلها كثيرًا كعادتك، لكن لا بأس، المهم أنّني ما زلت وفيًّا لك، أخبر الناس بقصّتك المُخيفة التي منعتني من مجرّد النّوم، أحدّثهم عن الحرب القذرة التي أجبرتك على الرّحيل، وأجبرت جسدك الناعِم على البقاء تحت الأنقاض لنصف عام، لا تقلق يا صديقي، أخبرني الشيخ أن جسدك سيعود كما كان ولن يسرقه الأوغاد، كُن واثقًا من هذا، وتأكّد من حُبّي لك ولن تُغادرني، أقرأ عليك السلام كلما مررتُ بضريحك العظيم، وأتذكّر ضحكاتك الأخيرة وأنت تُعانقني كالعائدين من جبهات القتال بعد انتصارٍ كبير، وتضحك مُبارِكًا دعائي؛ نجوت من مرضي يا صديقي، كأنّك تقول.

أتذكُر فرحتي يوم خروجك من المستشفى بعد مرضك العنيف، يومها شعرت برعشة قويّة في قلبي، تُشبه الرعشة التي تحدث للحبيب بعد رؤية حُب قديم، كانت سعادتي غامرة حين رأيتك تستعيد شيئًا من عافيتك الممزوجة بضحكاتك القديمة، لا تعرِف يا صديقي كم كانت فرحتي حين رأيتك تضحك مرّةً أخرى عارمة، كأنها انبعاث للإنسانيّة من رحم المسيح، يقرأ عليها محمد، ويُباركها إبراهيم، لقد رأيت الإنسانيّة في ضحكتك يا توتو، فإن لم تكُن الإنسانيّة في ضحكتك، فأين تكون؟

مهلًا، ألا تعرفون توتو؟

حسنًا؛

توتو هو صديقي العظيم الذي عاش حياته مسكينًا لا يملك سوى ابتسامته الكبيرة، يُرسلها للجميع دون استثناء، فهي سلاحه الوحيد الذي يستخدمه للنجاة من عقوق الأشرار، يوزّعها للناس بكثرة دون حاجة أو سبب، ابتسامته بمثابة تأشيرة دخول لقلوب الناس ببساطة دون تعقيد، توتو العظيم لا يعرف الكيد والحسد والكُره والضغينة، أبيض من الداخِل ككرة الثلج، العالم في نظره ضحكات متتالية، من يبادله الضحكات يُصبح صديقًا له في لحظة، ومن يُحزنه يُصبِح عدوّه إلى الأبد، يحزن العالم لحُزن توتو، وحين يضحك، الكون كلّه يضحك معه. يوم رحل انطفأت ضحكات العالم، هكذا شعرت.

قبل الحرب لم أكُن أفارقه، أجلس معه كل ليلة لأستعيد شيئًا من ضحكاتي المكتومة في أعماق قلبي، هو الوحيد القادر على إنقاذها من الغرق واستعادة أنفاسي الأخيرة، بعد رحيله عرفت أن الحياة بحاجة لتوتو أكثر من حاجته إليها، فالحياة الفارغة من قلب توتو، فارغة من الإنسانيّة والجمال.

في حارتنا الباكية كان فاكهة الدنيا، يوم رحل أظلمت فجأة، كأن الشمس سقطت في أعماق المحيط، عندها أدركت ماذا يعني الضوء الأخير، يرحل الأحبّة كأرجوحة من طرفين، ينخفض أحدها ويعلو الآخر، يسقط الصاروخ فيرتفع الشهداء، حين يرتفعون لا يتذكّرون شيئًا سِوى الضوء الأخير، فيظنونه شعاع النور الذي جذبهم بقوة نحو السماء، يرحلون ولا يعرفون حجم المأساة التي أورثونا إيّاها في الأرض، وحدنا من يعرِف ويرى.

قبل رحيل توتو إلى السماء بساعات قليلة، جلسنا معًا نضحك سويًا بصوتٍ عالٍ كأنها حفلة وداع، نقول أشياءً تنفع لإصلاح العالم من الكآبة البائِنة في شوارعه، وعلاجه من الكذب الذي يملأ صدره، توتو هو الإنسان الوحيد القادر على قتل الكآبة بالفرح، والحُزن بالسعادة، صدّقني أن العالم يُصبح جميلاً حين يبدأ توتو بالضحك، تشعُر أن الجنة نزلت إلى الأرض.

من الصعب جدًا أن أجد تشبيهًا دقيقًا لوصف توتو العظيم لكنّني سأحاول، توتو يُشبه الرشفة الأولى من مذاق القهوة في صباح ساحِر، أو أنه أغنية مشهورة يردّدها الجميع حين بدأ الموسيقار بعزف الكوبليه الأول، وربّما الوصف الأكثر إنصافًا أنه حبّة الكرز التي تُزيّن قطعة راقية من الجاتوه الجميل.

نجلس مع توتو كل ليلة فيمطرنا بوصلات قصيرة وسريعة من الفُكاهة التي يقولها بسجيّته البيضاء فتخرج بعذريّتها دون اصطناع كما يفعل الآخرون، يعدّلونها وراثيًا ويضعون عليها المكياج لتستساغ، فُكاهة توتو رطبة وطازجة كالندى، يقول الأشياء بعفويّة دون اختلاق، كوميديا واقعيّة بلا تمثيل، خفّة دم عجيبة، وضحكات ساحرة مع صوت ثقيل، لكنّه جميل.

إذا بكى أبكي لأجله، وإن ضحك أضحك معه، توتو ميزان مشاعري، أفعل له ما يشاء كقطعة صغيرة من الحديد أمام مغناطيس، أميل حيث مال، وأثبت حيث ثبت، يسرق مشاعري بخفّة لِص ماهِر، يعرف الجميع أنه اللص الوحيد المسموح له أن يسرق، يسرق أحزان الناس ليضحكوا، ويسرق كآبتهم ليفرحوا، يا له من لِصٌ جميل.

في اليوم المئة من الحرب قتله الاحتلال وأرسل روحه النديّة صُحبة عائلته مُبتسِمة إلى السماء، وحدي ظللت تعيسًا وحزينًا، رحل توتو مع عائِلته سريعًا دون وداع، فالوداع كما أخبرتكم رفاهيّة الموت البطيء، توتو رحل سريعًا كومضة في الفضاء، فما من وقتٍ للوداع، رحلوا جميعًا مرّة واحدة، كأنهم ذاهبون في رحلة عائليّة إلى السماء. 
أعرف توتو جيّدًا، لطالما رأيت ذلك في عينيه، يخاف الموت كثيرًا، ويكره سماع اسمه، ذات مرّة سأل والدته: هل سأموت في الحرب؟

- أجابته مُبتسِمة: لن تموت ستعيشُ طويلاً.

- قال خائِفًا: لكنّ الجميع يموتون.

- طمأنته: لكنّك ستعيش.

رحل توتو ولم يعِش طويلاً، أمّه لم تكُن تكذب، قصدت أنه سيعيشُ طويلاً في السماء، رحل صديقي توتو إلى الله ليشفى من مرض الأرض، فهو مُصاب بمتلازمة داون – منغولي - وهذا سِر جماله وجاذبيّته، الداونيّون جميلون جدًا، لا شيء يُعيبهم سِوى مُعيبهم، فرغم ثِقل لسانه، رأيته خفيف الرّوح، ورغم بساطة عقله، كان كبير القلب.

توتو لا يعرِف سبب رحيله عن هذا العالم، ولا الذنب الذي رحل من أجله، أنا فقط من يعرِف السبب جيّدًا، رحل توتو لأن الاحتلال أراد الانتقام من الفرح بالحُزن، ومن السعادة بالتعاسة، توتو كان صديقًا للإنسانيّة فقتلوه، هذه هي الحقيقة، مهنة الاحتلال قتل الإنسانيّة واغتيال الحُب.

رحل توتو بروحه إلى السماء وظلّ جسده مُسجّى تحت الأنقاض، إذا مررت من حارتنا ستجد حجرًا كبيرًا مكتوبًا عليه "توتو تحت الأنقاض"، ألقِ عليه السلام.

رفح، 07 أيار/ مايو 2024

نصوص
التحديثات الحية
المساهمون