استمع إلى الملخص
- بعد وصولها إلى المشفى المزدحم، تنتظر لساعات لتشخيص حالتها بالتهاب حاد في العظام والمفاصل، وتكتشف أن العلاج غير متوفر بسبب الحرب وإغلاق المعابر.
- تبدأ رحلة تهجير جديدة من رفح إلى مناطق المواصي، وتعبر الكاتبة عن حزنها العميق لفراق أهلها وبيوتهم، وتصف تأثير الحرب على حياتهم وأرواحهم.
لم أعتد الخروج من مكان تهجيري في رفح، حيث أقبع فيه منذ ستّة أشهر بعد تهجيري من مخيمات الوسطى، اضطررت للخروج بسبب ذلك الوجع المؤلم، أتحسّس جسدي وكأنه وقع عليه لوح من الإسمنت الصلب، يسري الألم بين عظامي الهشة. بدأت رحلتي منذ الساعة السابعة صباحاً؛ للوصول مبكراً إلى الطبيب الذي أشاروا عليَّ به، وهو يعمل في المشفى الأميركي الميداني الذي بدأ نشاطه في الحرب. سرت بين الخيام المتلاصقة في مركز الإيواء حتى تمكنت من الوصول إلى الطريق؛ لأحاول أن أجد وسيلة مواصلات تنقلني إلى المكان المقصود الذي لم أعرفه من قبل. انتظرت أكثر من ساعة إلى أن حصلت على مركبة بالية ليس فيها سوى العجلات والصفيح الصدئ، ففي ظل شح الوقود لا وسائل مواصلات كما اعتدنا قبل الحرب الظالمة.
بعد نصف ساعة تقريباً وصلت بي المركبة إلى مكان يطلق عليه دوار الطيارة، وإذا به مكان التفافيٌّ على أربعة محاور، يتوسّطه مجسّم لطائرة صغيرة ترتفع على علو ثلاثة أمتار؛ لتتمثل كأنّها معلمٌ تاريخي يُستدل به. بحثتُ عن العنوان وتوجهت بالسؤال عنه لكثير من الأشخاص لعلّ أحدهم يرشدني؛ لكن لا أحد يعلم به. نظرت من حولي فشاهدت عدداً من الباعة يعرضون بضائعهم، فهناك الخضار ذات الثمن الباهظ، والمعلبات التي تتركز بها المواد الحافظة لتبث السموم في أجسادنا، أما الخبز فتجد هنا الأطفال الذين لم يعرفوا أيّ نوع من أنواع النظافة وأكاد أن أجزم أنهم لم يغتسلوا لشهرين وربما أكثر، يحملون كراتين بها بضعة أرغفة بيتية فلا مخابز في غزة... تلفّ الأرغفة قطعة قماش متسخة سوداء من دخان النار الذي صنع عليها الخبز، تلك الكراتين يضعها الأطفال على الأرض الملطخة بالطين ومياه الصرف الصحي.
بحثتُ عن وسيلة مواصلات جديدة حتى أتمكن من الوصول إلى مكان أقرب لذلك المشفى، انتظرت أكثر من ساعتين لكن لا بديل عن تلك العربة الخشبية التي تجرها الدواب، وقفت العربة نظرت إلى العربنجي ثم حوّلت عيوني التائهة إلى العربة الخشبية علِّي أجد مكاناً نظيفاً أجلس عليه، حاولت تنظيف بضعة سنتيمترات للجلوس، وإذا بالعربة تسير قبل أن أنهي جلوسي، فهنا الجميع على عجلة ولا انتظار، الجميع يسير بعجلة لكنهم لا يعلمون أين وجهتهم، تائهون في أيامهم الحالكة، أخذت العربة بالسير وشعرت بأن الجميع ينظر إليّ، جعلت غطاء رأسي لثاماً علِّي أختفي عن الأنظار؛ لكن لا وسيلة لهذا الاختفاء، بعد دقائق من السير شعرت وكأني تأقلمت مع هذا الوضع المزري، كما اعتدنا حياتنا البائسة التي طرأت علينا، أو ربما لم نعد نحمل في دواخلنا أي اعتراض أو موافقة، لا مسيّرين ولا مخيّرين، كأنّ كلّ شيء يُشبه اللاشيء، لا فرق بين التوقف أو الاستمرار، الشعور واللاشعور، أصبحت مشاعرنا خاوية من مظاهر الحياة، وكأنّها لا تعنينا، ننتظر النهار ليعود الليل وهكذا.
■ ■ ■
وصلتُ إلى مكان جديد رأيت علمنا الفلسطيني شامخاً في سمائنا الزرقاء، سألت العربنجي هل هذا دوار العلم؟ فمعالمه تدل عليه،
رد عليَّ بالإيجاب، توقفت العربة، نزلت بهدوء وتساءلت عن المشفى لكن اكتشفت أنّ عليّ ركوب عربة أخرى ليتسنى لي الوصول إليه، صعدت لعربة يجرّها حمار مرة أخرى، وبعد نحو عشرين دقيقة وصلت إلى المشفى، الذي جهز على ساحل بحر رفح.
وجدت من تبقى من عائلتي بعد استشهاد اثني عشر شخصاً ينتظرونني، وينظرون إليَّ بعيون دامعة حائرة
دخلتُ بوابة المشفى وأنا متوجسة، أنظر برهبة في من هم حولي. المكان كبير، فيه ما لا يقل عن ألف شخص جميعهم ينتظرون العلاج. كان عبارة عن خيام بيضاء منصوبة، وُضعت على كلّ منها ورقة للدلالة على تخصص تلك الخيمة، فهذه الخيمة خاصة بعلاج الأطفال، وتلك خاصة بعلاج العظام، والتي تليها للعناية بالجروح والحروق والإصابات الخفيفة، أما الخيمة الأخرى فمخصصة للصحة النفسية، وهناك خيمة صيدلية لصرف العلاج، وخيمة تحجز بها تذكرتك لتتمكن من مقابلة الطبيب المختص، أما على الجانب المقابل فكانت خيام منفصلة كبيرة الحجم مقارنة بما قبلها، فهي متخصصة للطوارئ والعمليات.
في هذه الظروف ومع هذا العدد الكبير من المرضى يتوجب عليك الانتظار لساعات لتتمكن من الحصول على تذكرة، ثم انتظار جديد لتتمكن من الوصول للطبيب المختص. نظرت إلى مقاعد الانتظار المرصوصة تحت ذلك النايلون الذي يردّ عنك أشعة الشمس الحارقة وبالمقابل يضاعف حرارتها؛ لتصبح قطرات العرق تتصبب من جبينك بل من كل جسدك... عدد المقاعد محدود مقارنة بأعداد المرضى المنتظرين، ولا تكفي غير بعضهم، فيما كثيرون يترصدون ترك أحدهم مقعده ليسبق غيره للجلوس عليه، بكلّ ما فيهم من إرهاق.
بعد انتظار طويل تحت أشعة الشمس استمر ثلاث ساعات، اقترب دخولي إلى خيمة الطبيب المختص بعلاج العظام، والذي لا يأتي سوى ثلاثة أيام في الأسبوع ولبضع ساعات، استمع الطبيب لشكواي، وشخص حالتي بالتهاب حاد في العظام والمفاصل، كتب الدواء بعد أن عرف الداء. توجهت للخيمة الأخيرة (الصيدلية) للحصول على العلاج، نظرت الدكتورة الصيدلانية إليّ بعينين حائرتين قائلة في تردد: "أعتذر فهذا العلاج غير متوفر، ولا تبحثي عنه لأنّه مقطوع من غزة بسبب الحرب وإغلاق المعابر المستمر". يا له من شعور بالعجز... شكرتها واستأذنت عائدة إلى حيث بتُّ أنتمي؛ خيمتي المهترئة، حيث وصلت في الساعات الأخيرة من النهار.
■ ■ ■
وجدت من تبقى من عائلتي بعد استشهاد اثني عشر شخصاً ينتظرونني، وينظرون إليَّ بعيون دامعة حائرة، تساءلت عن سبب تلك الدموع التي تتحجر في عيونهم، وتملّكني الخوف فلم نستيقظ بعد من صدمة الفقد، إذ فقدنا كل شيء حتى نسينا ما تبقى، سارعوا لإبلاغي بقرار إخلاء رفح، فقد قرر جيش الاحتلال الدخول إليها وإعلان عملية عسكرية موسعة فيها. سيطر التيه والضياع على الجميع، ولسان حالهم يقول: وين نروح؟
لقد اشتدت بنا الغمة فهذا تهجيري الخامس، ضاقت بنا الدنيا حتى أرهقت قلوبنا ومزقت أرواحنا
بدأت رحلة تهجير جديدة من رفح إلى مناطق جديدة وهي المواصي، والتي زعم الاحتلال أنها آمنة؛ لكن هنا غزة وليس فيها مكان آمن، حتى جوف الأرض نبشوه وأخرجوا منه الجثث، هذه رفح آخر معاقل الأمان في القطاع، أصبحت رفح وبيوتها في انتظار الدمار، رفح تنزف أهلها تضع أحمالها لمواجهة ذاك الأخطبوط السام.
في ساعات الصباح المبكرة بدأت حركة التهجير من رفح خوفاً من الموت والقتل، وما هي إلا ساعاتٍ قليلة حتى أصبحت خاوية على عروشها، حزينة لبعد أهلها. هذه رفح الصمود التي ضمت جميع أهالي القطاع، جاء وقت أهلها لتركها والخروج منها حفاظاً على حياتهم، أصبحت رفح حزينة، تلك الأشجار الشامخة ذبلت أوراقها لفراق أهلها، أما بيوتها فأصبحت خالية إلا من الذكريات، ألقى أصحابها نظراتهم الأخيرة عليها، ولسان حالهم يقول: هل لنا عودة؟ هل سنعود لبيوتنا الدافئة، لذكرياتنا، لهمساتنا؟ لقد اشتدت بنا الغمة فهذا تهجيري الخامس، ضاقت بنا الدنيا حتى أرهقت قلوبنا ومزقت أرواحنا، تتساقط الدموع من أصواتنا المتعبة، من ملامح وجوهنا المنهكة، من صمتنا حين ننزوي بعيداً، من بياض الخصلات التي غزت رؤوسنا في غير أوانها، يتساقط دمعنا من هزال أجسادنا، من نظراتنا التائهة، من الأسئلة الحائرة التي تبسط على شفاهنا دون إجابة، تتلعثم ألسنتنا وتذوب الحروف بين دموعنا الحزينة، فتلك الغصة التي تتملك القلب نشعر وكأنها تملأ الكون بأكمله، سنروي كل لحظاتنا في هذه الحرب الحاقدة، إذا ظل في العمر بقية.
20 أيار/ مايو 2024
* كاتبة من غزّة