استمع إلى الملخص
- **الانتقال بين الملاجئ والمعاناة اليومية:** بعد ليلة في بيت أحد المعارف، انتقلنا إلى شقة ضيقة في حي الشيخ رضوان ثم إلى مدرسة مصعب بن عمير، حيث عانينا من نقص الماء والطعام.
- **المجاعة والبحث عن الغذاء:** في معسكر جباليا للاجئين، ارتفعت الأسعار بشكل خيالي واعتمد الناس على نبتة الخبيزة كغذاء رئيسي، واستمرت المعاناة رغم جهود التكيات في شهر رمضان.
وإن بكيت من الجراح
لكن تقوّيني الجراح
قلبي انذبح
والدمع صاح
الدمع صاح
الصراع من أجل الحياة يفرض علينا أن نترك الغالي والنفيس من أجل النجاة من التهديد. تهديد الموت أو الإصابة بعاهةٍ ما. نحن على استعداد، فكلّ له حقيبته أو حقيبتها، وفيها الهوية والأوراق والمستندات المهمة، وجهاز اللابتوب وجهاز الجوال. اللحظة التي يتمّ فيها الخروج، فيها لحظة الفزع الأكبر، وتتمّ بالعادة بعد القصف القريب جداً أو التهديد الأشدّ. الكلّ يركض نحو الباب في هلع لا يعلمه إلا الله، وكأنها الطامة الكبرى، وكأنه يوم القيامة. لا نعرف وجهتنا إلى أين؟
فنحن في أول مرة كانت وجهتنا إلى اللامكان، حيث خرج كل سكان برج مكة قرب دوار أبو مازن، إلى الشوارع لا يعرفون إلى أين يذهبون. لم أعرف ماذا نفعل. انتقلنا من شارع لشارع ننظر إلى اللامكان. ذهبنا إلى مجمع "كيرفور" التجاري لنختبئ فهو خارج حساب الجميع كما اعتقدنا، فإذا به مغلق. بعد دقائق اشتد الضرب والقصف فدخلنا إلى فرع مخبز العائلات المقابل للمول التجاري. اشترينا الخبز. كان البحر القريب يشاهد ما يحدث باستغراب و ذهول. لم أتمكن من النظر طويلاً ناحية البحر أو الحديث معه عن قرب فالموت يحاصر خطواتنا.
إلى أين نذهب؟
■ ■ ■
كنا نتخبط في الشارع ولم يكن هناك أحد. بعدها تفرّق الجمع كل في وجهته أو وجهتها. لم ننم ليلتها بعد أن انتقلنا إلى بيت أحد المعارف، حيث كنا نشاهد أحداث الهول الأعظم من خلف الزجاج والشاشة الكبيرة تعرض الأخبار. الزوارق على بعد أمتار والطائرات تهدر ونحن نرى كيف يحرقون غزّة، هذه المدينة الجميلة الفاتنة. لم أصدّق أنهم يهدمون صروح العلم. لم أصدق ما رأيت من استهداف للجامعات. هل هناك من يهدم جامعة؟! نارٌ، دخان أسود في كلّ اتجاه. أصوات سيارات الإسعاف وسيارات الدفاع المدني، وأصوات الإذاعات المرئية والمسموعة. اتصل بي رامز أخي وصديقي يسأل بقلق: أين أنت؟
هذه حرب مختلفة وكنت أظنها قصيرة خاطفة. في صباح اليوم الثاني، غادرنا بعد تناول الإفطار الذي أعدّه مضيفنا، الذي يعمل طبيباً. الفول بزيت الزيتون والطحينة والزعتر والدقة والشاي الساخن بالمريمية والقرشلة الناشفة. كان الطعام مميزاً أعطانا بعض الأمان، وبعض الدفء، فنحن كنا في الخريف في العاشر من شهر تشرين الأول/ أكتوبر.
خرجنا بعد الاستئذان والوداع إلى حيّ الشيخ رضوان حيث شقتنا الضيقة في العمارة القديمة. لا أثاث فالغبار يتزاحم مع الضربات ويطبق الخناق على أرواحنا الخائفة. بدأت أمسح الغبار وأرتب المكان ومن ثم نمنا على سجادة دون فراش آخر ودون غطاء. كان معنا بعض المال فاشترينا ما يلزم من طعام للغداء. في الليل جلسنا مع الجيران، النساء على حدة، والرجال على حدة، ومن ثم "نمنا شوية بحثاً عن الونس" فالحرب في أوجها، وكنا في حالة ذهول مما نسمع ونرى محدقين بعضنا ببعض: ما هذا يا الله؟
كنا بعضنا مع بعض كسكان العمارة نصلي سوياً، نأكل سوياً وندعو الله سوياً. بحدود شهر كامل، كانت مدّة الإقامة في هذا المكان، ومن ثم خرجنا إلى المدارس، وتحديداً إلى مدرسة مصعب بن عمير. هناك تقاسمنا مع عدة عائلات الصف، وكانت الخرائط تغطي النوافذ. عادت إليّ ذاكرتي حين كنت تلميذة في المدرسة. المدرسة التي صارت مأوانا وملاذنا مخصصة للمرحلة الإعدادية. أذهب لشراء الخبز وشحن البطارية والجوالات. وكان باعة الخضار والفاكهة يعرضون بضاعتهم على الكارات التي تجرّها الحمير، يمرون من أمام المخبز. وكنا نعاني في حمل الماء المالح للتنظيف والماء العذب للشرب. كنا نحتاج إلى النظافة، فاغتسلنا وغسلنا الملابس ونشرناها على شباك نوافذ الفصول. استمرت إقامتنا في المدرسة قرابة شهر كامل. بعدها ذهبنا إلى بيت أحد الأقارب بالقرب من بركة الشيخ رضوان. هناك ضاقت الأمور، ووجدنا صعوبة في الحصول على طعام. لا خبز ولا معلبات ولا فاكهة أو لحم أو خضار. اعتمدنا على الأرز كطعام أساسي إلى أن انقطع الأرز أو ارتفع سعره مع تضاؤل كمياته، وارتفعت أسعاره لدرجة أننا عجزنا عن الشراء. اشتدّت دائرة المجاعة أكثر فأكثر.
قال أحدهم إنّ معسكر جباليا للاجئين الفلسطينيين يصلح للسكن بعد أن خرجت منه الدبابات في شهر كانون الأول/ ديسمبر. مع ذلك، كنا نسمع هدير الدبابات تمرّ وصخب الجرافات يفسد كل ما حولنا. هناك قبل أن يخرجوا يقولون إنهم دخلوا على عائلات وقتلوا كلّ الأفراد. هناك من هدم الجدران ليفرّ من الدبابات لأنها تقتل كلّ متحرّك أمامها. الرعب شديدٌ جداً، أين نذهب، كيف ننجو، كلّ غزّة في خطر؟!
هناك من فرّ إلى الجنوب وقتلوه في الجنوب، ومن وصل إلى رفح وظن أنه في مأمن، لم يشعر بالأمن، فرفح صارت عقدة هذا الكون، وظلّ السؤال هل سيتمّ الهجوم عل رفح أم لن يتم الهجوم عليها. وكنا نظن أن الأمر سيتأجل إلى ما بعد رمضان، على الأقل، حتى لا تستفزّ الجيوش العربية والكرامة العربية. مع ذلك، هجموا على رفح.
في وقتها، لم أتذكر أنّ الهروب الأول، أو الفرار العظيم، أو النزوح، كان في يوم عيد ميلادي التاسع من تشرين الأول/ أكتوبر، فاحتفلت الحرب على طريقتها بعيدي.
■ ■ ■
في نزوحي إلى جباليا، مررتُ باليمن السعيد؛ أقصد مشفى اليمن السعيد. رأيت تكدّس الناس في الساحات والممرات والمداخل والأقسام والغرف، ورأيت شاباً يفترس قماشة بيضاء في حجر أمه، ويمشط شعره وهذا ما يفعله الصغار عندما يصابون بداء الحشرات (القمل)، فالكثير من الزوجات نزحن من الشمال إلى الجنوب مع الأطفال، وتعايش الأزواج مع الوضع برفقة الأمهات.
سوق جباليا المعسكر مليء بالسكان. عشرات الألوف. لكن الوحل يملأ الشوارع والنفس لا تحتاج إلى قلاقل واضطرابات ومشاهد تزيدها توحّشاً واغتراباً.
ارتفعت الأسعار إلى درجة خيالية، فكان كيلوغرام الدقيق بمائة وعشرين شيكلاً. ووصل سعر كيلوغرام الطماطم لمائتي شيكل. السوق يخلو من الفاكهة ومن اللحم والخضار. مجاعةٌ حقيقية؛ لأشهر طوال الناس لم تأكل الخبز أو مشتقاته، مثل البسكويت أو المعكرونة. نبتة الخبيزة كانت هي الوحيدة المتاحة كمائدة للجميع، حتى كتب الشباب على الجدران: زهقنا (مللنا) من الخبيزة، تناول الناس الخبيزة بالملعقة لعدم وجود الخبز.
استمرّت المجاعة حتى جاء شهر رمضان المبارك، شهر الخير، وفعلاً جاء الخير وصارت التكيات تطبخ للعامّة الطعام، وكان معظم الطعام أيضاً من الخبيزة، أو شوربة القرع والجزر والبطاطا. ووصلت بنا الحال أن نجهز الصلصة بكميات كبيرة مضافة إليها قطع قليلة جداً من البطاطا، لأنها نادرة ومرتفعة السعر جداً، حتى البصل بات يباع بالأوقية، وكلّ شيء يباع بأغلى الأثمان، ويُشترى بأقل الكميات إن توفر. ورغم أنني أتلقى راتباً كمعلمة، فإن الراتب لم يكن يكفي لشيء، فالمعلبات التي هي غذاؤنا الأساسي كانت قليلة وغالية الثمن. نحلت أجساد الناس وهزلت، وتعبنا...