مرّ أكثر من أسبوعين على الإفراج عن الأسيرة الفلسطينية ميس أبو غوش من سجون الاحتلال الإسرائيلي، وذلك بعد ستة عشر شهراً قضتها في المعتقل. في مخيم قلنديا شمال القدس المحتلة، كانت تجلس قرب شقيقتها وشقيقها الصغيرين اللذين كانا يلهوان مع قط، قبل أن تبدأ بالحديث عن زنزانة احتجزت فيها خلال التحقيق معها في مركز تحقيق المسكوبية، في أغسطس/آب عام 2019، هناك حيث كان يقفز إلى حضنها فأر حين تتمكن من إغماض عينيها.
هذه إحدى القصص التي ترويها أبو غوش لـ"العربي الجديد"، من ضمن قصص كثيرة واجهتها أثناء تحقيق قاسٍ استمر ثلاثة أيام، تعرضت فيه لتعذيب جسدي في إطار ما يعرف بالتحقيق العسكري، وتعذيب نفسي كان أقساه اضطرارها إلى الاستماع إلى تعذيب الأسرى، وبينهم زملاؤها في جامعة بيرزيت في الزنازين المجاورة، عدا عن قلة التواصل مع الأهل بعد انتهاء التحقيق، وأحياناً انعدامه.
فأر في الزنزانة
"كنت معتادة ألّا أنام نوماً عميقاً. أُسند ظهري إلى الحائط، ثم يقفز شيء ما إلى حضني. اعتقدت أنني أتخيل ووصلت إلى مرحلة الهلوسة. فتحت عيني وإذ بفأر يهرب نحو فتحة التصريف في الزنزانة. نفضت ملابسي خوفاً من الأمراض. لست خائفة من الفأر بعد كل ما رأيته في التحقيق. كنتُ أضربُ بالحذاء على الأرض ليسمع الصوت ولا يقترب مني، لكن ما إن أغفو قليلاً حتى يأتي"، توضح ميس. تضيف: "ناديت السجانين، وقلت لهم يوجد فأر في الزنزانة، وأحملكم المسؤولية إن أصبت بأي مرض. وطلبت نقلي من الزنزانة وبقيت واقفة طوال الليل ولم أنم وقلت لهم سأضع الغطاء والفرشة وكل ما في الغرفة في فتحة التصريف، وسأخبر المحامي بذلك، فنقلت إلى زنزانة أخرى". ويبدو أن الفأر هو أحد أساليب الضغط على فتاة بعمر 22 عاماً ما زالت في الجامعة. فأحد السجانين رد على ميس بنفي وجود فأر في الزنزانة، فيما أخبرها الآخر بوجود فأر، ليوبخه الأول مستنكراً إخبارها بذلك.
تعذيب
لم تكن تلك اللحظات الأقسى على ميس، هي التي واجهت أشكالاً متعددة من التعذيب على مدار ثلاثة أيام، منها الضرب و"الشبح" (أي وقوف أو جلوس المعتقل في أوضاع مؤلمة لفترة طويلة، وغالباً ما يتم إجلاس المعتقل على كرسي صغير وتقييد يديه إلى الخلف)، واستخدام ما يعرف بأسلوب الموزة والقرفصاء (يمنع الأسير من ملامسة رأسه للجدار، أو الارتكاز على ركبتيه على الأرض، بهدف إرهاق جسم الأسير، خاصة عضلات القدمين والذراعين والكتفين، والعمود الفقري)، لكنها واجهتها بتحدٍّ. تقول ميس: "مُنعت من لقاء المحامي لفترة طويلة. وقبل أن يبدأ التحقيق العسكري، حرموني من النوم لمدة أربعة أيام، واستخدموا الضغط النفسي من خلال إجباري على سماع المعتقلين الآخرين وهم يصرخون. كانوا يتعمدون إسماعي كيف يحققون مع الأسرى وما هي الأسئلة التي يوجهونها لهم، وكيف يضربونهم ويشتمونهم".
والضغط النفسي أساسي في أساليب التحقيق، قبل بدء التحقيق العسكري، وهو ما يعني حرفياً التعذيب. كان يقال لها: "لن تخرجي من سجن المسكوبية، ستصابين بالشلل، سنرسلك إلى مستشفى المجانين، وسنبعدك عن جامعة بيرزيت، ولن تقبل بك أي جامعة، سنمنعك من السفر"، وهذا بعض من عبارات أحد المحققين قبل بدء التعذيب.
"قبل البدء بالتحقيق العسكري، اقتادوني في ممر طويل فيما كان المحققون يقفون ويصفقون. "يلا يا بطلة، بدنا نشوف مين رح يسمعك هون، ضلي صرّخي ما حد رح يسمعك"، تقول ميس. ثم بدأ التعذيب على يد ثلاث محققات إسرائيليات، لافتة إلى أن تعصيب الأعين وتغطيتها شيء أساسي، يليه صفعة على الوجه. "أزلتُ العصبة عن عيني وطلبت منها (المحققة) ألا تعيدها وألا تضربني وأنا معصوبة العينين، فقالت: لا، ستظلين هكذا لكي تتفاجئي". "لن يسمعك أحد هنا، سأقيم لك عرساً هنا. لن تتزوجي، ولن ترتبطي ولن ترزقي بأبناء"، وهذا أيضاً جزء من أساليب الضغط النفسي. تضيف: "أول أسلوب للشبح استخدموه معي هو الموزة. كان ظهري مقوساً ورأسي إلى الخلف، وتمسك إحدى المحققات قدمي وأخرى تهمس في أذني وتسألني بعض الأسئلة وتعد للثلاثين ثم تضربني. استخدموا القرفصاء وأصبت بالدوار مرتين ولم أستطع النهوض، فسحبتني من قدمي وضربتني. استخدموا الشبح على الحائط؛ كل محققة ترفع كتفي ويضغطن على ظهري. استخدمن الشبح على طاولة ويداي مقيدتان للخلف، وكانت كل محققة تشدهما نحو أبعد نقطة عن الطاولة. وفي جلسة تحقيق في اليوم الثالث من التعذيب، تدخّل محقق وقال إن الأمر لن يقتصر على المحققات، وأنه سيرافقهن".
كانت ميس، كما تروي، تقاوم كل أساليب الضغط. رفضت التحقيق العسكري منذ بدايته، ولم تكن تجلس على كرسي التحقيق إلا مرغمة، ولا تقيد يديها إلا بالقوة، بل كانت تنزل جسدها إلى أسفل في وضعية الشبح على الحائط محاولة الراحة واسترجاع بعض قوتها، أو إزالة الأصفاد من يديها ورجليها لتعاني من جروح دائمة في يديها، ما دفع قوات الاحتلال إلى وضع قطن أسفل الأصفاد لمنعها من سحبها من يديها وقدميها.
أمور شخصية
استخدم الاحتلال أساليب كثيرة للضغط على ميس، منها محتويات الهاتف. تقول: "استخدموا كل أساليب الضغط، كالمعلومات على الهاتف، الصور، والكتب التي أحتفظ بها... أشياء عادية ليس لها علاقة بأي شيء"، وحتى منع تناول المياه حين تكون عطشى. "أجيبي على السؤال نعطيك الماء، وبعدما ننهي العد للثلاثين يمكن أن تشربي".
تتابع: "خلال التحقيق العسكري، كانت فترة دورتي الشهرية. منعوا عني الفوط الصحية، ومنعوني من الذهاب للحمّام. الكثير من الاحتياجات الإنسانية لا يعيرونها أي اهتمام. لا يتعاملون بإنسانية". وتوضح: "عادة ما يكون معي في مراكز التحقيق سجانة ومعها سجانان اثنان، أحدهما حاول التحرش بي، وأصبح يصدر صوتاً كصوت الأفعى وأنا معصوبة العينين. حدث ذلك بعدما خرجت من جلسة تحقيق عسكري ولم أكن أستطيع السير. وعادة أرفض أن يمسك بي أحد وأفضل السير وحدي. قدمت شكوى في السجانين أعلم أنها لن تفيد، لكنها أضعف الإيمان".
بعد انتهاء التحقيق، نقلت ميس إلى سجن الدامون، وعانت لفترة بسبب التعذيب. لكنها أصبحت بين الأسيرات، والمحكمة العسكرية أصدرت حكماً بسجنها 16 شهراً. تقول إن "التحقيق الذي تعرضت له والتعذيب لا يتناسب مع لائحة الاتهامات التي وجهت لي، بل بعملي الصحافي كطالبة إعلام، وأخرى بنشاطي النقابي داخل جامعة بيرزيت".
التواصل مع العائلة
داخل سجن الدامون، اختبرت ميس تجربة مختلفة تتعلق بالتواصل مع الأهل والأصدقاء وعدد الزيارات التي يسمح بها الاحتلال. فليس لدى الأسرى بشكل عام أية وسيلة للتواصل باستثناء الزيارات. إلا أن البرامج الإذاعية عدت متنفساً كنوع من التواصل لناحية سماع صوت أحد أفراد العائلة، بالإضافة إلى الرسائل المكتوبة التي ترسلها الأسيرات اللواتي يفرج عنهن.
في منزل ميس مجموعة من الرسائل التي كانت قد أرسلتها إلى ذويها. تقول: "عندما نعلم أنه سيفرج عن أسيرة، نبدأ بتجهيز الرسائل قبل أيام. بعض الأسيرات من صاحبات الأحكام الطويلة كن يرسلن دفاتر كاملة عن تفاصيل حياتهن". وزادت الحاجة إلى هذه الوسائل بعد تفشي كورونا وتوقف الزيارات منذ شهر مارس/آذار وحتى أغسطس/آب الماضي، عدا عن ظروف الزيارة التي وصفتها بـ"الحقيرة"، إذ يسمح الاحتلال للأسيرة باستقبال ذويها ويفصلهم عن بعض زجاج عازل، من دون عناق أو مصافحة، ولا حتى صوت واضح، بل من خلال سماعتي هاتف على جهتي الزجاج. "كنا نعود من الزيارة وكأننا سافرنا وعدنا إلى السجن، نحمل معنا أخباراً جديدة نحكيها للأسيرات".
كورونا
بعد تعليق الزيارات في ظل إجراءات إدارة سجون الاحتلال للوقاية من كورونا، سمح للأسيرات بإجراء اتصال هاتفي مع ذويهن، لكنّه استثنى ثلاثا، من بينهن ميس لأسباب أمنية، الأمر الذي دفع الأسيرات إلى الاعتصام لمدة ساعة في ساحة السجن ضد قرار الاستثناء. وتابع المحامون الضغط في المحاكم الإسرائيلية حتى استطاعت ميس الاتصال بذويها بعد شهرين.
"داخل غرفة الاستخبارات، وبوجود الضابط الذي وافق على الرقم الذي سأتصل به، بدأت المكالمة المسجلة وهي 15 دقيقة. أضاف أهلي صديقاتي ووالدة صديقتي إلى الاتصال، وكنت أتكلم مع الجميع في وقت واحد. سجلت عائلتي المكالمة لكنني لم أستمع إليها حتى الآن. كذلك سجّل معظم الأهالي أصوات بناتهن ليسمعوهن أكثر من مرة. سعدن بالمكالمات وكأننا في سفر. ولم ننم قبل أن نخبر الأسيرات بكل ما حدثنا به أهلنا".
الإذاعة
للإذاعة قصة أخرى، وتصفها ميس بـ "الطقوس". ترتدي الأسيرات أفضل ما لديهن من ملابس في انتظار البرامج الإذاعية الخاصة بالأسرى التي تبث على الإذاعات المحلية ليسمعن ذويهن الذين يرسلون رسائل صوتية قد تصل ضعيفة أو مشوشة، حتى أنهن قد يستخدمن أغطية الطناجر لالتقاط الإشارة. تقول: "نسمع أحياناً البرنامج خلال البث المباشر، ثم نسمع الإعادة مرة أخرى. نحن في السجن ننتظر تفاصيل التفاصيل".
خرجت ميس ولم تفوت فرصة الاتصال بالبرامج الإذاعية لتحكي مع من تركتهن خلفها، لكن هذه المرة من دون أن تسمعهن. هو عرف لدى الأسيرات المحررات لإبقاء أصواتهن في السجن مع الأسيرات ولو عبر المذياع.