مرّ شهران على انفجار مرفأ بيروت، وكأنّ ما حصل حلمٌ، أو بالأحرى كابوسٌ مرعب هزّ مدينة قيل يوماً إنها "ستّ الدنيا"، لتتحوّل في غضون دقائق إلى حطامٍ، طاول الأرواح قبل الأجساد والممتلكات.
مرّ شهران، ولا يزال اللبنانيّون يحاولون التعافي ممّا حصل. لم يستفيقوا بعد من صدمة الانفجار، ولن يستفيقوا منها على الأغلب، قريباً. لا شكّ أنّ رحلة العلاج من ارتدادات الكارثة التي وقعت ستطول، خصوصاً أنّ الحريق الذي عاد واندلع في مرفأ بيروت بعد الانفجار، والحوادث المشابهة التي تتكرّر بين يوم وآخر، كانت كفيلة بإعادة إحياء الصدمة لدى كثيرين، وعلى رأسهم الأطفال، الذين يُعتبرون من الفئات الأكثر ضعفاً وهشاشةً بين من اختبروا الكارثة.
تروي الزميلة في "العربي الجديد"، صمود غزال، تجربتها مع الانفجار، وما عاشته مع ابنتيها في ذلك اليوم المشؤوم. تسكن غزال في منطقة الجعيتاوي - الأشرفية في بيروت، وهي من المناطق الأكثر تضرراً من جرّاء الانفجار. تقول: "لحسن الحظ أن ابنتيّ كانتا نائمتين وقت الحادثة ولم تستفيقا. كنت خارج المنزل وقتها. لا أعرف كيف عُدت إليه. لم أستطع، لهول ما وقع، أن أميّز منطقة الجميزة حين وصلت إليها. في هذا الشارع مكتب الجريدة التي أعمل فيها منذ أكثر من خمس سنوات. لم أعرفه".
صمود، التي أسعفت الجرحى يومها، وأسلمت إحداهنّ الروح أمام عينيها، تستذكر ما حصل، قائلةً: "دخلت المنزل، فإذا بالزجاج متناثر في كلّ مكان. دخلت غرفة الطفلتين، وكانتا بعد نائمتين. لم تتكسّر النافذة هنا، ولم تصب أيّ منهما بأذى". تلقي باللوم على نفسها لعدم رفعها آثار الفوضى التي خلّفها الانفجار في المنزل قبل أن تستفيق الطفلتان. تقول: "أدركت عندما سألتني ابنتي الكبرى عمّا حصل، أنّه كان عليّ تنظيف المكان. الأمر كان أكبر من أن يستوعبه عقلي. لم تكن لديّ إجابات ولم أعرف كيف أتصرّف".
اختارت غزال، التي تؤكد أنها لم تستطع حتّى اليوم استيعاب ما حصل، وربّما لن تتمكن من ذلك يوماً، أن تضع الحادث في إطار قالبٍ يشبه عالم ابنتها الصغير، حتّى تتمكّن من تفسير الواقعة. اختارت أن تخبر ابنتها أنّ شرشبيل، شرّير مسلسل الرسوم المتحركة "السنافر"، هو المسؤول عمّا حصل، من دون أن تتوقّع أنّها ستأتي لاحقاً لتسألها ما إذا كان شرشبيل سيعود يوماً.
في هذا الإطار، تشرح الأخصائية في علم النفس والمعالجة النفسية، شارلوت الخليل، لـ"العربي الجديد"، كيفية التعامل مع الأطفال في هكذا ظروف، مشدّدة على وجوب إخبارهم بالحقيقة التي تتناسب مع أعمارهم من دون تضخيم، أو نقل القلق الذي يشعر به الأهل إليهم. وتقول: "من الأمور الأساسية عند طمأنة الأطفال، أن نكون واضحين وحقيقيين، من دون أن نخبرهم بأمورٍ هم غير قادرين على استيعابها بالنسبة إلى أعمارهم، مع ضرورة عدم إعطائهم وعوداً نحن عاجزون عن تحقيقها".
وتتحدث في هذا السياق عن تجدّد الحريق في المرفأ، مؤكدةً أنّ هناك أطفالاً لم يعانوا من الصدمة عند وقوع الانفجار، لكنّهم عانوا منها مع اندلاع الحريق باعتباره مؤشراً لانفجار ثانٍ، لافتة إلى أنّ هذا الأمر تسبّب بأزمة أكبر لدى عددٍ من الأطفال الذين عاشوا التهديد مرّةً جديدة. وشدّدت على ضرورة الإضاءة على الأمور الإيجابية، منها العمل الذي قام به الناشطون وعناصر الدفاع المدني بعد الكارثة، ما يمنحهم اطمئناناً أساسياً في هذه المرحلة.
وتشير الخليل إلى أنّ ما جرى لا يمكن فصله عن الواقع الذي كان يعيشه الأطفال في ظلّ جائحة فيروس كورونا، حيث إنّ منازلهم كانت تشكّل "المكان الآمن" بالنسبة إليهم، قائلةً: "كان الأطفال يعيشون نوعاً من القلق جراء بقائهم في المنازل، كون هذا الأمر من الشروط الأساسية للحماية من كورونا، لذلك كانوا يعتقدون أنّ عليهم أن يلازموا بيوتهم، كي يكونوا في أمان ومحميين، إلا أنّ الانفجار هدّدهم داخلها".
وتؤكد أنّ الأطفال الذين عايشوا مشاهد قاسيةً بحاجة إلى متابعة، حيث إنّ بعضهم فقد ذويه أو أقارب له، مشيرةً إلى أنّ كلّ طفل يستجيب بطريقته مع الصدمة، وتظهر عليه عوارض مختلفة. وتتحدّث عن عوارض نفس-جسدية ظهرت على بعضهم، مثل الحرارة والتقيؤ والخوف من الأصوات الصاخبة، والتأخّر في مراحل النمو كالتبوّل اللاإرادي مثلاً. كما لفتت إلى ظهور عوارض الخوف والتعلّق بالأهل، ورفض بعضهم النوم وحيداً أو العودة إلى المنزل. وتشدّد هنا على ضرورة أن يعي الأهل ردّات الفعل، وأن ينقلوا أطفالهم إلى أماكن أكثر أماناً إذا كانت منازلهم غير صالحة للسكن حتّى يشعروا بنوعٍ من الأمان.
لكن ماذا عن الأهل؟ تقول الخليل: "هم أيضاً تعرّضوا لصدمةٍ، وبعضهم غير قادرٍ على مساندة أطفاله، من هنا وجوب الاستعانة بالمحيط القريب، مثل الأقارب والأصدقاء، والعودة إلى الجمعيات وأصحاب الاختصاص إذا كان هذا الأمر غير متوفّرٍ".
لن تندمل الجروح النفسيّة التي سبّبها انفجار الرابع من أغسطس/آب في مرفأ بيروت قريباً. سيبقى الأطفال، ومعهم أهاليهم، وكلّ من عايش الجريمة التي حصلت، يتذكّرون هذا اليوم الذي غيّر حياتهم إلى الأبد. تبقى فقط ضرورة أن يحصل كلّ شخص على المساعدة اللازمة، تفادياً لأزمات نفسيّة أكبر، قد تهدّد حياتهم ومستقبلهم، من دون أن يعوا ذلك.