في ذكرى انتفاضة فبراير: لم تحقق أحلام الليبيين
مع حلول الذكرى السنوية الثالثة عشرة لانتفاضة 17 فبراير في ليبيا التي أطاحت نظام معمّر القذافي، لا يزال الليبيون ينشدون الأمل بالوصول إلى انتخابات تمكّنهم من اختيار من يحكُمهم وإنهاء المراحل الانتقالية التي أصبحت إحدى الطرق التي ينتهجها السياسيون للوصول إلى السلطة والبقاء فيها أطول مدّة في انحراف ملحوظ ومقصود عن الغاية من المراحل الانتقالية، والتي تهدف، نظرياً، إلى ضمان الوصول إلى الانتخابات المنشودة وتأمين تحقيق التحوّل الديمقراطي الآمن الذي يتيح للمواطن المشاركة فيه من دون خوف من عودة ديكتاتورية الفرد أو العائلة أو الجماعة. مراحل انتقالية كان يجب أن تتضمّن تشكيل حكومة مؤقتة ذات مهمّة محدّدة تتركّز في الإعداد لانتخابات نزيهة، وتساهم في كتابة دستور توافقي يضمن حقوق الجميع، بمن فيهم الأقليات، والمحافظة على عدم استخدام السلاح في حل المشكلات والدفع في اتجاه تقوية أجهزة الشرطة والجيش، لتكون قادرة على تجميع الأسلحة التي انتشرت بشكل كبير.
الوضع في ليبيا مختلفٌ تماماً، فهذه المراحل الانتقالية أصبحت هدفاً في حدّ ذاتها، حتى أصبحت من العقبات الرئيسية أمام الوصول إلى الحل النهائي المتمثل في الانتخابات التي ينتظرها الليبيون بشغف، علّها تكون قادرة على إخراجهم من نفقٍ أقحمتهم فيه نخب وأفراد وعائلات تسعى إلى الحكم لتحقيق مصالحها الضيقة، من دون أن تفكّر في المصلحة العامة التي لا تشكل أيَّ أهمية على قائمة أولوياتهم، ومن دون أن يدرك متصدّرو المشهد أن الصراع السياسي يجب أن يتّخذ شكل منافسة سياسية تحافظ على المصالح المشتركة التي تعيد إلى البلد حرّيته التي انتهكت، واقتصاده الذي دُمّر، وأراضيه التي استُبيحت بعيداً عن تصفية الحسابات والانتقام، والتي قد تؤدّي، في النهاية، إلى أشكالٍ جديدة من النظم السلطوية، بل وربما الشمولية.
تأتي هذه الذكرى على الليبيين، والجميع يدرك أن البلاد في مأزق حقيقي، وأنها ما زالت تعيش حالة من الانقسام السياسي والاجتماعي والاقتصادي، بل وأصبحت تعاني من انتشار الفقر والفساد، وأن الأمم المتحدة لا تزال عاجزةً عن تنفيد وعودها بمساعدة الليبيين، ولم تستطع، ومبعوثوها الثمانية، الوصول إلى مقترح يمكن البناء عليه، وأن ما تقوم به الأمم المتحدة، حسب قناعة معظم الليبيين، لا يعدو كونه إطالةً لعمر الأزمة، لا سيما أن تعاطيها مع الأزمة الليبية مقيّد برؤية الدول الكبيرة المهيمنة عليها، والتي يبدو أنها لم تصل إلى حلٍّ يضمن لها جميعاً حماية حقوقها وامتيازاتها داخل بلدٍ تتقاذفه أمواج الصراعات المحلية والدولية، من دون أن يكون للشارع الليبي أي رأي فيما يحدُث، ولا يزال البلد يودّع مبعوثاً أممياً ليستقبل آخر من دون أي تقدّم أو حلحلة لمشكلاته التي تزداد بازدياد أعداد هؤلاء المبعوثين.
تدنٍّ ملحوظ في الخدمات المقدّمة للمواطن، مثل التعليم والصحة وغيرهما، وارتفاع جنوني في أسعار السلع الأساسية جعل ليبيين كثيرين عاجزين عن اقتنائها
وفي الوقت الذي تستعد فيه حكومة عبد الحميد الدبيبة للاحتفال بهذه المناسبة، ببناء منصّة احتفال يقال إن ملايين الدولارات صرفت عليها لتكون المنصّة الكبرى والأحدث في تاريخ ليبيا، وأن شركات أجنبية استُدعيت لبنائها في ميدان الشهداء (أكبر الميادين في طرابلس)، وأن عشرات من الفنانين وصلوا إلى البلد لإحياء هذه المناسبة، فيما يواصل الوضع الاقتصادي انهياره بشكل لافت، فالأسعار تتضاعف كل يوم، كما أن الارتفاع القياسي وغير المسبوق لسعر صرف الدولار مقابل الدينار الليبي أثار قلقاً شعبياً ومخاوف من انعكاس ذلك على تكاليف المعيشة التي يعاني المواطن أصلاً من عدم قدرته على التعامل معها، وموجة الغلاء التي تزامنت مع ارتفاع نسب التضخّم بمعدّلاتٍ غير مسبوقة، حتى أصبح المواطن يفاضل بين احتياجاته، والرواتب لا تسمن ولا تغني من جوع، زيادة على عدم صرفها في مواعيدها، وإن صرفت فليس من السهل الحصول عليها من مصارف تعاني من شحّ السيولة، الأمر الذي أدّى إلى انقسام مجتمعي كبير وسط مخاوف حقيقية من التآكل المستمرّ للطبقة الوسطى، وازدياد الفجوة بين طبقات المجتمع، والتي قد يكون لها تأثير سلبي على المجتمع وتفكّكه، لا سيما أن الفساد المستشري، والذي أصبح سائداً في معظم المؤسسات، أوجد طبقة (بورجوازية) صارت تتحكّم في معظم الشركات الاقتصادية، وساهمت، بالتالي، في ارتفاع جنوني للأسعار ابتداء من السلع والخدمات، مروراً بأسعار العقارات التي وصلت إلى أرقامٍ خيالية، وساهم هذا الوضع في أن شريحة واسعة من الليبيين باتت قريبة جداً من خط الفقر، بعد أن أُنهكت من مصاريف المدارس الخاصة، نتيجة تدني مستوى التعليم العام واكتظاظه، ومن مصاريف العيادات الخاصّة، بعد أن أفلست المستشفيات العامة، وأصبح الحصول على سريرٍ فيها بمثابة حلمٍ بعيد المنال، وذلك كله تحت مرأى ومسمع الحكومة التي صرّح وزير الاقتصاد فيها بأن هناك مؤشّرات إلى أن ما نسبته 40% من الشعب الليبي عند خط الفقر وفق المعايير الدولية.
وفي السياق نفسه، ينتقد ليبيون كثيرون حكومة الدبيبة في إصرارها على الاحتفال بذكرى فبراير، وبهذه الطريقة التي تكلّف الملايين، في وقتٍ يعاني فيه المواطن من أزمات اقتصادية متتالية، جديدها أخيراً عدم توفر السيولة في المصارف، وتأخّر صرف المرتّبات أكثر من شهرين، والارتفاع غير المسبوق لأسعار الدولار في السوق الموازي، واعتبر كثيرون منهم، من خلال ما يتداول في صفحات التواصل الاجتماعي، أن هذا الإمعان في المحافظة على الاحتفال بهذه المناسبة ما هو الا وسيلة من وسائل الفساد للحصول على عمولات من شركات أجنبية تصرّ هذه الحكومة على التعامل معها من خلال الأسماء والشركات والمؤسّسات نفسها، والتي أصبح معظم الليبيين يعرفونها تماماً، وأن المنصّات التي تُبنى، والإضاءة التي تزيّن الشوارع لم تعد تسرّ الناظرين من الليبيين، لا سيما أن كثيرين منهم، وفي الجهة المقابلة للمنصّة الضخمة التي بُنيت، يتجمهرون على مصرفٍ أُشيع أنه سيوزّع بعض السيولة على بعض زبائنه، وغيرهم يحاولون بيع "أرقامهم الوطنية" لتجارٍ يشترونها للحصول على بطاقات العملة الأجنبية، والتي يعجز أغلبهم عن دفع مستحقّات الحصول عليها.
يعتقد ليبيون كثيرون أن انتفاضة فبراير لم تحقّق أحلامهم بل ساهمت في تدنّي مستوى معيشتهم
في المنطقة الشرقية من البلاد، وفي إطار التجاذبات المستمرّة بين الحكومتين، أعلنت حكومة "الاستقرار" المكلفة من مجلس النواب إلغاء الاحتفالات الرسيمة بذكرى فبراير لهذه السنة، تضامناً مع ضحايا عاصفة درنة، وقالت، في بيان لها، إنها قرّرت إلغاء الاحتفال تضامناً مع ضحايا السيول التي ضربت درنة وبعض مدن الشرق الليبي، وحفاظاً على المال العام وتوظيفاً للإمكانات البشرية والمادية، خصوصاً في مجال إعادة إعمار المدن والمناطق المتضرّرة، مضيفة أن إلغاء الاحتفال يعد "تقديراً لما يمر به أهلنا في مدينة زليتن جرّاء ارتفاع منسوب المياه".
وفي الختام، احتفلت الحكومتان الليبيتان بهذه الذكرى أو لم تفعل، لن يغيّر هذا في أحوال المواطن الذي يعاني من مشكلاتٍ اقتصاديةٍ تتفاقم في كل يوم، فليست المشكلة الرئيسية في الاحتفال من عدمه، وإنما في الحال الذي وصلت إليه البلاد، فالصراع مستمرٌّ بين حكومتين تتنافسان على كل شي، وتدنٍ ملحوظ في الخدمات المقدّمة للمواطن، مثل التعليم والصحة وغيرهما، وارتفاع جنوني في أسعار السلع الأساسية جعل ليبيين كثيرين عاجزين عن اقتنائها، وفساد مالي وإداري مستشرٍ بشكل مخيف، أما الانتخابات والتداول السلمي على السلطة فلا تزال حلماً بعيداً عن الواقع الذي فرضه متصدّرو المشهد، الأمر الذي جعل ليبيين كثيرين يعتقدون أن انتفاضة فبراير لم تحقّق أحلامهم، بل ساهمت في تدنّي مستوى معيشتهم، وأن مجموعة محدودة العدد وعائلات بعينها هي التي استفادت ولا تزال منها، رغم أنها لم تشارك فيه، بل وكان أكثرها معارضاً لها، وحاول إجهاضها بكل السبل.