عندما تتغيّر التحالفات وتتبدّل المصالح في لبيبا
تشهد ليبيا حراكا سياسيا واجتماعيا ملحوظا داخل البلاد وخارجها، فقد أعادت تحرّكاتٌ رسم خريطة التحالفات، وأنتجت تكتّلات جديدة، كانت حتى وقت قريب ليس لها من القواسم المشتركة ما يساهم في اتفاقها على رؤية أو مصلحة واحدة. وستلقي هذه التحالفات بآثارها على مستقبل حكومة الوحدة الوطنية بوتيرة متسارعة، وربما غير متوقّعة من كثيرين من متابعي المشهد في ليبيا.
علاقات جديدة تشكلت، ولا تزال، ستحدّد المستقبل السياسي لحكومة الوحدة الوطنية التي استطاع رئيسها عبد الحميد الدبيبة الاستمرار في الحكم أكثر من ثلاث سنوات، رغم ما نص عليه الاتفاق السياسي الذي دعمته الأمم المتحدة في العام 2021 باعتبارها حكومة مؤقتة ذات مهام محدّدة بخريطة طريق وأهداف واضحة، تتمثّل في تعزيز الشرعية السياسية عبر انتخابات رئاسية وبرلمانية تنهي المرحلة الانتقالية على أساس دستوري جديد، وهو استمرار ساهمت العلاقة مع محافظ مصرف ليبيا المركزي في فرضه على أرض الواقع، رغم كل المحاولات التي بذلت من أجل اعتبارها حكومة منتهية الصلاحية، بعدما صوّت البرلمان الليبي بحجب الثقة عنها، وساهم التزاوج بين السلطة والمال في إسكات أصوات معارضة كثيرة خفتت وتلاشت دعواتها إلى ضرورة إجراء الانتخابات، بعد أن أصبح هذا الوضع مثاليا لكثير منها، واستخدمته الحكومة في رسم علاقات اجتماعية وقبلية، ساهمت في كسب ود قبائل كثيرة أصبحت تدافع، بطريقة أو بأخرى، في سبيل استمرار الحكومة، وتبنّت موقف رئيسها الذي يرفض تسليم السلطة إلا إلى حكومة منتخبة، وهو يدرك صعوبة ذلك وفق الظروف الراهنة، وقد ساهم مع غيره في عدم نجاح الانتخابات التي اتّفق على إنجازها في 24 ديسمبر/ كانون الأول من العام 2021.
تزاوج وتعاون تحت غطاء التحالفات الإقليمية والدولية كانت ثمرتُه فتح أبواب مصرف ليبيا المركزي أمام حكومة الوحدة الوطنية التي استطاعت الإنفاق كيفما شاءت من دون ميزانيات معتمدة أو موافقات مسبقة، فصُرفت ميزانياتٌ كثيرةٌ من دون إقرار من البرلمان الذي عارضها ووصفها بالمتضخّمة مع شبهات فساد مالي أصبح حديث الشارع الليبي، وتناولته معظم الأجهزة الرقابية ومكتب النائب العام. وفي المقابل، تمترس محافظ مصرف ليبيا المركزي، الصديق عمر الكبير، خلف مليشيات أغدقت عليهم الحكومة الملايين لتشتري ولاءاتهم، وتضمن، بالتالي، سيطرتها عليهم وتوجيههم حيثما شاءت، رافضا (المحافظ) كل القرارات التي أصدرها البرلمان، باعتباره الجهة التشريعية المخوّلة، نظريّا، بتعيين (وإقالة) محافظ المصرف وغيره من المناصب السيادية، وساهم، بالتالي، في إنشاء واستمرار مصرفٍ موازٍ في بنغازي، أدّى وجوده إلى مشكلاتٍ اقتصاديةٍ ما زالت تتفاقم في كل مرّة، وأدّت إلى تشوّهات اقتصادية قد تقود، حسب محللين، ليبيا إلى الإفلاس.
الوضع السياسي الليبي سيشهد تغيرات كثيرة سترسمها اصطفافاتٌ جديدة بدأت فعليا في الظهور
استمرّ شهر العسل بين الحكومة متمثلة في رئيسها الدبيبة ومحافظ المصرف سنوات، ولكن ما كان لهذه العلاقة أن تستمر إلى الأبد فتضارب المصالح وتغير التحالفات وطبيعة المرحلة، والإملاءات الإقليمية والدولية، أدّت مجتمعةً إلى خلاف ظهر إلى العلن، وتناقلته معظم وسائل الإعلام، رغم كل المحاولات العديدة لاحتواء هذا الصراع ومحاولة حلحلة المشكلات العالقة بينهما، والتي قامت بها أطرافٌ عديدة، خصوصاً تلك المستفيدة من استمرار هذا التزاوج. خلافات عكست حدّتها مراسلاتٌ عديدة لم يكتف محافظ المصرف بتوجيهها إلى رئيس الحكومة فقط، بل نشرها على صفحة المصرف على "فيسبوك"، وتعلق معظمها بسياسة التوسّع في الإنفاق التي انتهجها الدبيبة وحكومته منذ استلامه السلطة، حيث قال، في جزء من رسالته، مخاطبا رئيس الحكومة "أشرتم إلى الرغبة في أن يكون سعر الدولار 1.3 دينار للدولار الواحد، ولكن الرغبة وحدها لا تكفي لتحقيق ذلك، إذ كانت الممارسات الفعلية للحكومات المتعاقبة عكس ذلك"، مضيفا أن الدولة أنفقت منذ العام 2021 حتى نهاية 2023 قرابة 420 مليار دينار، وجّه معظمها إلى نفقات استهلاكية على حساب الإنفاق التنموي، وولدت ضغوطا على سعر صرف الدينار الليبي، حسب ما جاء في الرسالة التي يبدو أنها جاءت رد فعل على اتهام الدبيبة المحافظ بالوقوف وراء تعطّل صرف الرواتب، ووضع عصا في دولاب الحكومة المتحرّك ومحاولة إيقاف عملية عودة الحياة التي تبنّتها حكومة الوحدة الوطنية في تصريحاته بمناسبة الاحتفال بذكرى انتفاضة 17 فبراير/ شباط.
اتهاماتٌ متبادلةٌ ألقت بظلالها على مناحٍ عدة داخل ليبيا، وانعكست مباشرة على الوضع المالي في البلاد، فارتفع سعر الدولار في السوق الموازي ليصل إلى أرقام قياسية، لترافقه زيادة فورية في أسعار سلع كثيرة لتأكل ما تبقّى من سيولة في جيوب المواطن، وسط تأخّر في صرف مرتبات معظم القطاعات المموّلة من الخزينة العامة، الأمر الذي أدّى إلى تفاقم الوضع المعيشي، خصوصاً مع قدوم شهر رمضان، والذي تكون تلبية احتياجاته تحدّياً كبيراً لشريحة كبيرة من المواطنين.
وفي الأحوال كافة، وسواء أكانت هذه الخلافات والمناكفات نتيجة لتغيّر خريطة التحالفات أم العكس صحيح، فالوضع السياسي الليبي سيشهد تغيرات كثيرة سترسمها اصطفافاتٌ جديدة بدأت فعليا في الظهور، لعل أهمها العلاقة الجديدة بين رئيس البرلمان عقيلة صالح ومحافظ المصرف المركزي، الصدّيق الكبير، علاقة يبدو أنها تجاوزت تلك الخلافات التي جعلت رئيس البرلمان يطالب بإقالة المحافظ وتعيين مجلس إدارة جديد في مراسلاتٍ عديدةٍ لم تجد طريقها إلى التنفيذ، وأهملها المحافظ كإهماله كل قرارات البرلمان الأخرى، وقد وصف البرلمان بأنه منتهي الصلاحية تارّة وفاقد الشرعية في أحيان كثيرة أخرى.
تفيد الأحداث أخيراً بأن حكومة الدبيبة ستدفع ثمن خلافاتها مع الصديق الكبير الذي يعرف كيف يطيح خصومه
وفجأة، تغيّرت المفاهيم والقناعات بتغير المصالح السابقة، فالبرلمان لم يعد فاقدا للشرعية، حيث خاطبه المحافظ برسالة نشرت على صفحة المصرف الرسمية وعلى صفحة البرلمان وتناولتها وسائل الإعلام طالبا من رئيسه فرض رسوم جديدة على سعر الصرف الرسمي للدولار وبنسبة 27%، وهو ما يعني عمليا تخفيض قيمة الدينار الليبي، حتى يتسنّى، وفق رسالة الكبير، استغلال هذه الإيرادات التي تقدر بحوالي 12 مليارا في سداد الديْن العام وتمويل مشاريع تنموية، موكّداً أن المصرف المركزي لن يصرف أي مبالغ مالية خارج إطار الميزانية التي يحدّدها البرلمان.
وفي السياق ذاته، لم يعد محافظ المصرف المركزي مغتصبا للسلطة، ولم يعد متمترسا خلف مليشيات تحميه بعد أن أغدق عليها الأموال، وسهّل لها الاعتمادات، وخصّها بمزايا ساهمت في تغولها وسيطرتها على كل مفاصل الدولة في العاصمة طرابلس، ولم يعد الصديق الكبير ذلك الحليف القوي لحكومة الوحدة الوطنية، والتي ساهم في فسادها بتسييل المليارات من دون موافقة البرلمان، لم يعد لهذه الأوصاف والتهم مكان في خطاب البرلمان، وخصوصاً رئيسه الذي صرح، في لقاء تلفزيوني، بأنه اقتنع تماما بما ساقه المحافظ من حجج وأدلة على ضرورة تعديل سعر الصرف بما يخدم الاقتصاد الليبي.
وجدير بالذكر أن خلافات الصدّيق الكبير السابقة مع فائز السراج عجّلت بسقوط حكومة الأخير بعدما أعاق تمويلها وعرقل اعتماداتها المالية التي أدّت إلى مشكلاتٍ عجز السراج عن إقناع حلفائه الأتراك بالتدخل لصالحه لدى الكبير الذي يوصف بأنه رجل تركيا الاقتصادي في ليبيا. ويبدو أن هذا السيناريو يتكرّر مع حكومة الدبيبة التي تفيد الأحداث أخيراً بأنها ستدفع ثمن خلافاتها مع الصدّيق الكبير الذي يعرف كيف يطيح خصومه، وكيف يعيد رسم تحالفاته بما يضمن بقاءه في منصبٍ يتحكّم من خلاله في الجميع. ولعلّ اجتماع القاهرة أخيراً، والتصريحات الدولية، والأميركية خصوصاً، المرحبة بالاتفاق على ضرورة الاتفاق على حكومة موحدة تقود البلاد إلى الانتخابات، دليلٌ على أن تيار الكبير سيجرف الدبيبة الذي ظلّ صامداً كثيراً.