عندما يصل الخلاف إلى بيت مال الليبيين

16 سبتمبر 2024

مقر البنك المركزي الليبي في طرابلس (27/8/2024 فرانس برس)

+ الخط -

استمع إلى المقال:

يستمرّ الانقسام السياسي في ليبيا للعام العاشر، بسبب النزاع على شرعيةٍ يدعيها كلّ طرف من المتصارعين، ولا يملكها أيّ منهم، أطراف لا تزال تصرّ على قيادة البلاد وجرّها إلى المجهول، من خلال تشبّث كلّ منها بوجهة نظر ساهمت مجتمعة في عرقلة أيّ بوادر اتفاق، وأعاقت الوصول إلى تفاهم أو حلّ مشترك يتنازل فيه الجميع من أجل الجميع، ويقود إلى انتخابات يتوقُ إليها الشارع الليبي، وهي تائهة بين المبادرات الدولية والمشاكل والصراعات الداخلية.
وفي وقت ينتظر فيه الليبيون استكمال مسار الحوار السياسي، ووضع حدٍّ لهذه الانقسامات وما سبّبته من مآسٍ ألقت بآثارها على مناحي الحياة كلّها، وانعكست في صورة أزمات متتالية طال أمدها وتعدَّدت مساراتها، وتشعّبت جوانبها، يتفاجأ الجميع بتحوّل هذه الخلافات وانتقالها إلى فصل آخر أكثر سوءاً، لتخوض هذه الأطراف حرباً من نوع آخر على ثروات البلاد من خلال محاولة كلّ طرف بسط سيطرته على مصرف ليبيا المركزي في العاصمة طرابلس. ومن الجدير بالذكر أنّها ليست المرّة الأولى التي يكون فيها المصرف المركزي هدفاً يستقطب اهتمام هذه الجماعات باعتباره بيت مال الليبيين، فقد سبق أن أدّت المناكفات والخلافات السياسية والقبلية إلى وجود مصرفَين في شرق البلاد وغربها، انقسام أدّى إلى تضارب القرارات المالية وازدواجيتها، وتخبط السياسة الاقتصادية للدولة، ما أدّى إلى ضعفٍ مستمرٍّ وتدهورٍ ملحوظٍ في قيمة العملة المحلّية في مقابل العملات الأخرى، وليسترسل التضخّم في الدين العام بصورة غير مسبوقة، ليلجأ كلّ مصرفٍ إلى طباعة العملة من دون أيّ غطاء مالي أو سياسة مالية عامة، وقد كلّفت الأمم المتّحدة في حينها شركة ديلويث الدولية إجراء المراجعة لأنشطة وحسابات المصرفَين، مراجعة أوصت بضرورة عاجلة للبدء في الإصلاح الاقتصادي والمالي للدولة، والعمل السريع لإعادة دمج المصرفَين وتوحيدهما في مصرف واحد، إلّا أنّ الأزمة هذه المرّة اتّخذت منحنىً آخر أشدّ خطورةً، وله من التأثيرات السالبة ما لا يستطيع البلد المنهك أصلاً تحمّله. أزمة بدأت بوادرها عندما أعلن المجلس الرئاسي تعيين محافظ جديد للمصرف المركزي، وإقالة الصدّيق الكبير، الذي ظلّ صامداً منذ عام 2011 أمام رياح التغيير كلّها، التي حاولت الاقتراب من مملكته، إلى الدرجة التي أصبح معها كثير من الليبيين يتندرون معها بتسمية المصرف المركزي "مصرف الصدّيق الكبير".

لا تزال الأمم المتحدة، بالرغم من اجتماعاتها بأطراف الأزمة، عاجزةً عن الوصول إلى تسوية تعيد الثقة إلى المصرف المركزي 

وكعادة جلّ المسؤولين الليبيين، رفض المحافظ تسليم مهامّه، وهو في هذا ليس استثناءً، متحجّجاً بأنّ إقالة المحافظ أو تعيينه ليسا من اختصاص المجلس الرئاسي، وهو (وفق اتّفاق الصخيرات السياسي) اختصاص أصيل لمجلس النواب بالتشاور مع مجلس الدولة. وقد اعترض مجلس النواب على القرار، ولا سيّما أنّه جاء بعد أن فتح المجلس، ورئيسه عقيلة صالح، صفحةً جديدةً مع الصدّيق الكبير، الذي وافق على تسييل ميزانيات كانت متوقّفةً، وأصبح يموّل مشروعات الإعمار، التي تبنّاها خليفة حفتر في الشرق الليبي. أمّا الجماعات المسلّحة في الغرب الليبي، التي يقع المصرف ضمن نطاقها الجغرافي، فسارعت إلى رفع جاهزيتها استعداداً لأيّ مواجهات، وتباينت مواقفها بحسب مصالحها، والأموال التي ستتحصّل عليها من هذه المواقف والاصطفافات.
وبالرغم من أنّ المجلس الرئاسي برّر قراره أعلاه بأنّه من أجل تعزيز قدرة المصرف على القيام بمهامّه بكفاءة وفاعلية، وبتحقيق الاستقرار الاقتصادي، وبحلّ الأزمات التي يعيشها المواطن الليبي ابتداءً من التضخم غير المسبوق وانتهاءً بتدهور قيمة الدينار، مروراً بشحّ السيولة، وتأخّر صرف المرتّبات، والانخفاض الحادّ في قيمة الأصول المالية، وغيرها، إلّا أنّ معظم الليبيين يعرفون جيّداً أنّ معاناتهم وأزماتهم المستمرّة، التي يعانونها منذ أكثر من عشر سنوات، لم تكن في أي يوم في قائمة اهتمام متصدّري المشهد، وأنّ مصلحة المواطن والتخفيف من معاناته هي مُجرَّد حجج واهية لم تعد تنطوي على أحد.
الأمم المتّحدة، الراعية لكلّ أسباب الصراع، التي أصبحت مهامّها محلّ ريبة وشكوك، لا تزال تعيد العبارات نفسها التي اعتادت إطلاقها، واعتاد الليبيون سماعها، من قبيل دعوة الجميع إلى تغليب المصلحة العامّة، وضرورة التنازل من أجل الوطن، وإخراج المصرف المركزي من دائرة الصراعات السياسية، وغيرها من المصطلحات والعبارات، التي لم تعد تعني في أرض الواقع شيئاً، وإنّها بالرغم من اجتماعاتها المتعدّدة مع أطراف الأزمة لا تزال عاجزةً عن الوصول إلى تسوية تعيد الثقة إلى المصرف المركزي، التي أصبحت في المحكّ، ولا سيّما أن كثيراً من المصارف الدولية أوقفت تعاملاتها مع المصرف، الذي اقتصر دوره في الوقت الحالي على المعاملات المحلّية بين المصارف، وفي أضيق نطاق، وتأثّرت سمعة المصرف المركزي أمام المؤسّسات المناظرة له في العالم، الأمر الذي قد يصل إلى فرض وصاية دولية على إيرادات النفط، باعتباره المصدر الوحيد للدخل، وإلى الإشراف المباشر على المصروفات والإنفاق، ما يعيد إلى الأذهان اتّفاق النفط في مقابل الغذاء، الذي فرضته الأمم المتّحدة على العراق، والذي جعل حسابات العراق تحت إدارة الأمم المتّحدة.

ما يحدُث في ليبيا ليس أزمة مصرف بقدر ما هي أزمة حكم، واختلاف على تقاسم ثروة النفط

وبالرغم من تعوّد الليبيين الانقسام والمناكفات السياسية بين متصدّري المشهد، إلّا أنّ أزمة المصرف المركزي قد فاقت سابقاتها، ليدرك الجميع المستوى الذي وصلت إليه الطبقة السياسية، التي لا تزال تدير شؤون البلد من خلال العقلية المصلحية والأنانية، وبيَّنت تورّط هذه القوى المتصارعة في توظيف المال السياسي من أجل الوصول إلى أهدافها، واستعملت الخزينة العامة في شراء ولاءات تساعدها على بسط نفوذها وتحقيق أحلامها في الانفراد بكرسي الحكم، وإبعاد كلّ معارض لها، واعتمدت على أفراد وجماعات مكّنتها من مؤسّسات الدولة وأركانها، من طريق المحاباة والوساطة والمحسوبية، الأمر الذي أدّى إلى انتشار الفساد في معظم مؤسّسات الدولة، وساهم في انقسام الأصوات المنقسمة، وتشتيت الجهود المشتَّتة، وأنهكت القوى الشرائية المنهكة أصلاً، بعد أن فشل الجميع في مجابهة تضخّم يكاد يقضي على الطبقة الوسطى تماماً، لتصبح أولويات المواطن فقط لقمة عيش، أو حبّة دواء، وأصبح فريسةً للخوف من المستقبل المجهول، وسط استثمار لهذه الأزمات في تبادل الاتّهامات بين محافظ المصرف ورئيس الحكومة، فألقى الأول باللائمة على الحكومة ورئيسها نتيجة التوسّع في الإنفاق الاستهلاكي، وخصوصاً في مصروفات الباب الأول، الذي يشمل المرتّبات، ليتضخّم الجهاز الإداري ويصل إلى 31% من عدد السكّان، وهي النسبة الأعلى في العالم. أمّا الثاني، فإنه يتّهم المحافظ بأنّه ساهم في النزف الأكبر، الذي حدث في العملات الصعبة من خلال صرف اعتمادات مُبالَغ فيها، ولأسماء مُحدَّدة.
خلاصة القول، ليس ما يحدث أزمة مصرف بقدر ما هي أزمة حكم، واختلاف على تقاسم ثروة النفط، التي لم تكن في منأىً من هذه الصراعات، فسارعت بعض الأطراف إلى التلويح بقفل آبار النفط، التي تقع في مناطق نفوذها، بل إنّها بدأت بالفعل في تنفيذ تهديدها قبل أن تُجبر على إعادة تشغيلها، فالقوى الفاعلة، التي تغضّ النظر عن الصراعات، بل تساهم في إذكائها، يعتبر النفط وإنتاجه وتصديره خطّاً أحمرَ لا يمكن الاقتراب منه أو استخدامه في هذه الصراعات. وما بين محافظ ترك البلاد حفاظاً على سلامته، كما صرّح، لا يزال يصرّ على أنّ قرار إقالته باطل، ومحافظ آخر خرج في مؤتمر صحافي علني، يبحث عن كلمة السرّ للدخول إلى منظومة المصرف، يقف المواطن حائراً أمام وضع يبدو أنّه سيستمرّ ويستمرّ معه التدهور المتزايد في الأوضاع المعيشية، وسيظلّ رهينةً لأهواء ساسته ينتظر انفراجاً لا يزال رهينةً لاتّفاق محلّي وإقليمي ودولي، لن يأتي بسهولة، لا سيّما في وجود أطراف محلّية متلقية وغير مقررة، تعيش على الاختلاف وتقتات منه.