ليبيا أو الاستمرار في تقسيم المقسّم
في وقت ينتظر الليبيون استحقاق الانتخابات على أمل الوصول إلى استقرار دائم ينهي الصراعات التي أتت على مقوّمات الدولة كلّها، وفتحت الأبواب على مصراعيها أمام الدول المتداخلة في الشأن الليبي، التي تعمل جميعها للاستفادة من هذا الوضع الاستفادة المثلى التي تحقّق مصالحها. كثيرون لا يروْن الانتخابات عصاً سحرية تحلّ مشكلات البلاد كلّها، ولكنّها في الأقلّ ستساهم في إنهاء ويلات الانقسام المؤسّساتي الذي دفع الليبيون ثمنَه، وأدّى، فيما أدّى، إلى زيادة معاناتهم الحياتية اليومية، إلا أنّه، وبعد هذا الانتظار الذي استمر سنوات وهم يمنُّون أنفسهم في كلّ مرّة بقرب موعده، فوجئ الجميع بما حدث بانتخاب رئيس ما يعرف بمجلس الدولة في العاصمة طرابلس، الذي قاد إلى انقسام المجلس جسمَين، على غرار ما حصل في معظم المؤسّسات الليبية، بعد أن تشبّث كلّ من المُترشّحَين بقانونية انتخابه ليكون في رأس هذا المجلس.
ورقة انتخابية وحيدة كانت كفيلةً بإسقاط ورقة التوت عن هذا الجسم الذي لا يزال يجثم على صدور الليبيين منذ أكثر من عشر سنوات، جسم أجاد الاختلاف باقتدار مع مجلس النواب، لأنّهما (المجلسَين) يدركان أنّ اختلافهما هو السبيل الوحيد لبقائهما بعد أن فقدا شرعيّتهما على غرار الأجسام الأخرى كلّها، رغم تصريحاتهما المُتكرّرة بأهمّية الوصول إلى انتخابات تُعيد للدولة هيبتها وتساهم في إنهاء الانقسام والتشظّي بين شرق البلاد وغربها، تلك التصريحات التي لم تعُد تنطلي على الغالبية، فنيّات البقاء في المناصب لا تحتاج ذكاءً استثنائياً، وفشلهما في إنجاز أيّ استحقاق يعرفه الجميع، على الرغم من الملايين التي صُرفت على هذه الأجهزة، حسب تقارير مصرف ليبيا المركزي، كانت كفيلةً بحلحلة هذه الأوضاع المأساوية التي تعيشها البلاد في الأصعدة كلّها، بل أسهم هذان الجسمان، بصفة خاصّة، في إهدار الأموال وممارسة الوساطة والمحسوبية، واستغلال المناصب في تحقيق المكاسب القبلية والعائلية الضيّقة، وساهما في إجهاض أيّ جهدٍ أو محاولةٍ لحلّ الأزمة أو الاتفاق على تسوية يتنازل فيها الجميع من أجل الجميع.
تعوَّد الليبيون تمسّك الساسة بمناصبهم، وليس أعضاء مجلس الدولة استثناء من ذلك
ورقةٌ انتخابيةٌ اختلف حول قانونيتها الباحثون عن المناصب، وتشبّث كلّ فريقٍ بأحقيته في ترؤس هذا الجسم الغريب، الذي زرعه اتفاق الصخيرات (2015، لإنهاء الحرب الأهلية الليبية "الثانية" المندلعة منذ 2014)، لإرضاء أعضاء المؤتمر الوطني العام، الذين اشترطوا أن يكون لهم دورٌ في المشهد في مقابل الاعتراف بانتخابات مجلس النواب، ليصبح، منذ ذلك الحين، جسماً شارك مع غيره في تعطيل الانتخابات، وفي التمديد لهم، وفي مصادرة إرادة الشعب الليبي وحقّه في اختيار من يحكمه، واختُزِلَت وظيفة هذا الجسم في إعاقة أيّ توافقٍ في الحوار، ليعمّق الأزمة ويديمها، ويساهم في شرخ النسيج الاجتماعي، ويزرع مع مجلس النواب آلاماً وأوجاعاً في جسم الوطن، ليس من السهل تجاوزها أو التغلّب عليها في المدى القريب.
ورقة انتخابية أكَّدت، ومن جديد، أنّه على الرغم من أنّ المتاهةَ الليبية حصيلةٌ للتدخّل الخارجي العلني والصريح، إلّا أنّ انعدام توفّر الرغبة في السعي بجدّية إلى الخروج من الوضع الراهن من هذه الأجسام عامل آخر داخلي لا يمكن تجاهله، سيّما أنّ جُلَّ هذه الأجسام، إن لم تكن كلّها، تعتبر ما يجري من فوضى فرصةً حقيقيةً لاستفادةٍ لا يمكن تعويضها، وأنّ قيام الدولة بمفهومها المتكامل، وتوحيد مُؤسَّساتها، قد يُلغيان هذه المكاسب ويقوّضانها، بل قد يجد كثيرون من متصدّري المشهد أنفسَهم في قفص الاتهام نتيجةً ما ارتكبوه طوال هذه المدَّة، ولعلّ ما حصل في هذه الجلسة دليلٌ لا يحتاج تأكيداً على أنّ المجلس وتركيبته أبعدَ ما يكون من مفهوم الديمقراطية، وأنّ الفاعلين في هذا المجلس بعيدون بسنوات ضوئية من مفهوم التداول السلمي على السلطة، التي صدعوا رؤوسنا بالتغنّي به، في مشهدٍ ينطبق عليه وبدقَّةٍ ما صرَّح به خالد المشري، أحدُ المُترشّحين لرئاسة المجلس، الذي وصفه بـ"بلطجة سياسية". والأمر ينطبق تماماً على مجلس النواب، الذي أصبح جزءاً من المشكلة، ولم يُسهم في أن يكون جزءاً من الحلّ أو داعياً له.
وفي السياق نفسه، وبعيداً عن المناكفات واللغط والاتهامات المتبادلة بين أعضاء المجلس، وهي أمورٌ يتوقَّعها الليبيون، ولا يستغربون حدوثها من ساسة جاءت بهم الأقدار، ليتشبّث كلٌّ منهم بمنصبه، مهما كان الثمن الذي سيدفعه الوطن والمواطن، إلا أنّ الأمر اللافت للنظر، المرّة هذه، ذلك التسجيل الذي تم تداوله في نطاقٍ واسعٍ، ونشرته مُعظم صفحات التواصل الاجتماعي، ودار الحديث فيه بين رئيس المجلس السابق محمّد تكّالة وأحد أعضاء المجلس، إذ تضمَّن هذا التسجيل شبهةَ فسادٍ، وتدخّلٍ غير مقبول من أحد وزراء عبد الحميد الدبيبة، المقربين منه والمحسوبين عليه، وقد فسَّر كثيرون ما حصل بأنّه محاولاتٌ من حكومة الدبيبة لإبعاد المشري عن رئاسة المجلس، والإبقاء على تكالة، الذي يتهمه المقربون بأنّه إدارة الدبيبة التي يعتمد عليها في إفساد أيّ تفاهم مع مجلس النواب. وقد تصاعدت المطالبات بضرورة التحقيق في هذا الفيديو المُسرَّب، واعتبره كثيرون دليلاً قاطعاً على تدخّل الحكومة في سير هذه الانتخابات، وبالطريقة التي تضمن ولاء رئيس المجلس للحكومة، وعدم الموافقة على تكليف حكومة مُؤقَّتة أخرى، مطالبات جعلت العضو المُتَّهم في التسجيل يُدلي بتصريح أذاعته وسائل الأعلام، أشار فيه إلى أنّ الحديث المُسرَّب، الذي دار بينه وبين رئيس المجلس، ليس له أيُّ علاقةٍ بموضوع الانتخابات، وأنّه كان بخصوص محاولة الحصول على مولّد كهربائي لمنطقته في الجنوب، وهو ما تناوله كثيرون بالتندُّر والسخرية، وطرحوا كثيرَ تساؤلات عن الطريقة التي يدار بها المجلس، والتحالفات المتكوّنة داخله، التي لا تعدو بحثاً عن استفادةٍ شخصيةٍ وجهويةٍ من دون أن يكون للمصلحة العامة فيها نصيب.
أكَّدت الورقة الانتخابية أنّ الأجسام السياسية ترى في قيام الدولة وتوحيد مُؤسَّساتها إلغاء لمكاسبها
وجدير بالذكر، أنّه على الرغم من أنّ الليبيين تعوَّدوا تمسّك الساسة ومتصدري المشهد بمناصبهم، والاحتفاظ بكراسيهم ما أمكنهم ذلك، وبالتأكيد ليس أعضاء مجلس الدولة استثناءً من ذلك، إلّا أنّه هناك كثير من العوامل التي أسهمت في زيادة الاحتقان وعدم القبول بالنتائج، لعلّ أهمّها التوقيت الذي أُجريت فيه هذه الانتخابات، الذي تزامن مع إعلان مجلس النواب البدء في قبول ملفّات الترشّح لرئاسة الحكومة المرتقبة، الذي اشتُرِط فيه حصول المُترشّح على 20 تزكيةً من أعضاء مجلس النواب، ومثلها من أعضاء مجلس الدولة، الأمر الذي يُمكّن رئاسة مجلس الدولة من لعب الدور المفصلي والمُؤثّر في هذا المجال، كما أنّ التقارب الذي حدث بين مجلسَي الدولة والنواب، إبّان تولّي المشري رئاسة مجلس الدولة في السنة الماضية، واتفاقهما على خريطة طريق مشتركة تقوم على إجراء الانتخابات، بعد إقرار قوانينها المُحالةَ من لجنة 6 + 6، والتخلّي عن حكومة الوحدة الوطنية التي يرأسها الدبيبة، جعل الأخيرة تُبذل المساعي، وتقوم بالتدخّلات من أجل إبعاد المشري، لنسف أيّ إمكانيةِ تفاهمٍ مع البرلمان، تقارب لو حدث، فإنّ عبد الحميد الدبيبة وحكومته سيدفعان ثمنه.
وفي العموم، يبقى الخلاف والاختلاف حول تلك الورقة، وما أثاره قبولها أو رفضها من جدل داخل المجلس، ليس أمراً قانونياً، بل خلاف سياسي يتجاوز محمد تكّالة وخالد المشري، ويعكس مصالحَ سياسيةٍ لأطراف خارج المجلس، بل تصل إلى أطراف إقليمية ودولية تتعارض وتتقاطع مصالحها، الأمر الذي قد يُؤدّي إلى انقسام آخر لعدم وجود نيّة صادقة في توحيد المؤسّسات، والوصول إلى كلمة سواء، تنهي هذا التشظّي، وتُخرِج البلدَ من نفق طال مكوثه فيه.