نزوح آخر

31 يوليو 2024
عمل للفنانة الفلسطينية ليلى الشوا
+ الخط -

الاستيقاظ باكرًا ملاذُنا الحقيقي من يومنا الشائك بالتّفاصيل الحياتيّة، السّاعة السّادسة صباحًا نهضتُ فزِعًا، وغسلتُ وجهي، وارتديتُ حذائي المُهترئ من كثرة المشي وانطلقت... 

طابورُ الخبزِ هذه المرّة لم يكنْ مُكتظًّا بالأشخاص فقط، كان يَعجُّ بالأخبار المُتضادّة إثباتًا ونفيًا. تهديداتُ المُحتل في اجتياح رفح تزايدت، وكان أغلبُ النّاس يستبعدون ذلك، لم أكن مُهتمًّا كثيرًا للأمر... فالنّزوحُ يبدأُ من وقتِ خروجِك من بيتِك، لا يهمُّ بعدها كم مرة سيتكرّر، ولكنّ القلقَ الّذي ينتابُ الجميع سببُه مفاجآتُ ظروفِ كلّ نُزوحٍ جديد.

بعد ساعتين من الوقوفِ المُشبَع بالإشاعات، واشتعال الصّباح باصفرار الشّمس، انفجرَ انتظامُ الطّابور، وخرج عن ترتيبِه حين قالَ أحدُهم: "إنّ المُحتلّ نشر خريطةً للإخلاء، وحدّد مناطقَ للاجتياح في رفح"... انقسمَ جمهورُ الطّابور إلى قسمين، قسمٌ على مدخل المخبز يسارعُ الوقتَ في التقاطِ ربطة خبزٍ قبل اشتعالِ فتيل التّوغل في رفح، وقسمٌ اتّجه نحو مناطق سكناهم تأهّبوا لحدثِ النّزوح.

كنتُ أُعاني ألمَ الأسنان منذُ فترةٍ طويلة، لم يكُن هناك وقتٌ أو إمكانيّات أو مكانٌ آمن، كان كلُّ شيء أهمَّ من ألمِ أسناني، والآن لن أُضيِّعَ فرصةَ الذّهاب إلى عيادةِ الأسنان، فقد اشتدَّ عليَّ الألم، وإن كان هناك نزوحٌ فسيطولُ أمرُ العلاجِ مرّةً أُخرى...

وصلتُ إلى العيادة وكانت السّاعةُ الثّامنة والنّصف، حجزتُ دورًا لي، وكان ترتيبُ دُخولي أربعة، كانَ موعدُ بدءِ استقبال الطّبيبِ للمرضى السّاعةَ العاشرة مع توقيتِ ارتفاع أشعة الشّمس، واستغلالِها لتشغيل الكهرباء.

كنتُ أقرأُ أوجاعَ المارة والواقِفين حتى شخصت أبصارنا جميعًا نحو السماء التي جاءت بالخبر المشؤوم

تحرّكتُ في شارعِ السّوق، وكنتُ أقرأُ أوجاعَ المارّة والواقِفين حتّى شخصت أبصارُنا جميعًا نحو السّماء التي جاءت بالخبر المشؤوم، أسرابُ مناشِيرَ ورقيّة تُحلّقُ فوقَ أنظارِنا ونركضُ نحو تفرّقها سُقوطًا لنلتقطَها، ونقرأُ أنّ العدوَّ رسميًّا قرَّر الاجتياح، وأمرَ النّاس في شرقِ رفح بالنّزوح... 

تسارعَ الوقتُ وركبَ الذّعر مركباتِ النّزوح، وبدأَ النّاسُ من حولِنا الخروجَ من المدينةِ بحثًا عن مأوى جديد... استشعرتُ الخطرَ بعدما كنتُ أعتقدُ أنّ رفح هي المحطّة الأخيرة للنّزوح، تحرّكتُ نحو البيت وبدأ القلقُ والخوفُ يتسلّلان إلى أفكاري بالتّزامن مع المناشير وإعلان الخبر، بدأَ المُحتلُّ بالقصفِ على حدود المنطقة الشرقيّة، المنطقة المُخصّصة للتّوغل، والتي أعيشُ فيها مع صديقي الذي احتضنني مع أُسرتي وعائِلتي في بيتِه...

لن أهتمّ بموعدي الذي حجزتُه عند طبيبِ الأسنان، توقّعًا منّي أنّه لن يستقبلَ أحدًا في ظلّ هذا الخبر المُفاجئ...

عدتُ إلى البيتِ وقد سبقني الخبرُ إليهم... سألتُ صاحبَ البيتِ الذي آوانا طوالَ فترةِ الحرب: إلى أين سنذهب؟ ضَحكَ وقال: لن أخرجَ من بيتي، مهما حدث... لم أُراجعه ولم أنصحه، دخلتُ أرتّبُ أغراضِي التي زادت مع أغراضِ صديقي التي منحنِي إيّاها، بعدَما تركتُ بيتي في الشّمال، ونزحتُ بالقليل...

تكلَّمتُ مع زوجتِي بهدوء، أنّنا يجبُ أن نرحلَ ولا مكانَ له جُدران قد يُؤوينا الآن بعد أن دمَّرَ المُحتلُّ الكثيرَ من المَنازل في شتّى المناطق وشتّت الكثير من المعارف والأصحاب...

اتّصلتُ بصديقٍ لي في ديرِ البلح لديه أرضٌ خاصّة يعتني بها ويزرعها، وكنتُ أنا والأصدقاء نلتقي فيها قبل الحرب في غُرفةِ النّخيل التي بناها وأسماها بيتَ الشّعراء... التقفَ مُكالمتي مُرحّبًا بِي...

ولكنّي تريّثتُ قليلًا بقرارِ الذّهاب إلى دير البلح، وغيّرتُ خُطّة نُزوحي إلى الغرب، حيثُ أهلي هُناك يقطُنون في خِيم، وتشاورتُ مع زَوجتي أن نبقى هناك حتّى تتّضحَ الأُمور بسببِ تضاربِ الأخبار، تارةً هي عمليّة محدودة، وتارةً هو اجتياحٌ كاملٌ للمدينة، وتارة هي مناورة سياسية للتوصل إلى هدنة...

جهّزتُ أغراضي مع أُسرتي وكنتُ أحاولُ اختيارَ الأهمّ فالأهم؛ اختصارًا للوقتِ الذي شاركني فيه سقوطُ القنابلِ مِن حولنا، والتي غيّرت رأيَ صديقي وحثّته على جمعِ أغراضِه هو أيضًا وتركه لكل الصور التي كان يتفقدها في عقله وكيف بنى هذا البيت حجرًا فوق حجر... قام باتصالاته بحثًا عن مكانٍ آخرٍ ينزحُ إليه لأوّل مرّة بعد ثمانية أشهرٍ من عُمر الحرب.

بيتُه الذي جمعنا لا بديلَ عنه إلّا في خيمةٍ وسطَ الدّمار والرّكام، وقد فرّقنا القصفُ لنذهبَ في اتّجاهين مُختلفين.

لقد سمحَ لي أخذَ كلّ ما يلزمُني من فراشٍ وأثاثٍ وأدوات، بقيَ كريمًا حتّى آخرِ لحظةٍ معي، حاولتُ جاهدًا الحصولَ على أي وسيلة نقل، وكان المُتاح سيّارة صغيرة، اضطررتُ بسببِها إلى التّخلي عن بعضِ الأغراض خاصّة الملابس الشّتوية ونحنُ على مطلعِ صيف... على الرّغم من كلّ الأحداثِ ما زال داخلُنا إيمانًا بأنّ الحربَ ستنتهي يومًا، فقد لا أحتاج إلى هذه الملابس لسترنا من استمرار الحرب. 

بعد انتصاف الشمس تحرّكتُ إلى غرب رفح، والطريق التي تحتاج إلى ربع ساعة للوصول اِحتاجتْ إلى ساعتين بسبب تزاحم سيارات النقل وامتلاء الطرقات بنزوح الأقدام التي لم تجد وسيلة للنقل، وحين وصلتُ لم تكُن الخيام التي يشترك فيها أبي وأقارب زوجته كافيةً لحملِنا جميعًا...

ازدادتْ وتيرة القصف خاصة حول معبر رفح البري، واتضحتْ تصريحات المحتل عبر الإذاعة أن الهجوم يستهدف رفح بأكملها... 

طمأنتُ أولادي وزوجتي أنّنا سنكون بخير، لكنّي أخبرتُ والِدي أنّنا في خطر، وأنّ رفح ستُنهشُ جدرانُ بيوتِها وتُغتصبُ حاراتُها، ويجبُ أن نرحلَ جميعًا قبل أن تكتظّ الطّرقاتُ بالسّيارات والشّاحنات، وقبل أن يصعُبَ علينا الحصولُ على عربةٍ تُوصلنا الى برّ النّزوح التّالي...

■ ■ ■ 

لم يعد مُصطلحُ (برّ الأمان) يليقُ بظرفِ الحرب في غزّة، فالمُحتلُّ ينهكُ أرواحَنا بالتّنقل، ولا يترك مكانًا آمنًا عن القصف.

وافقني على ذلك، فتحرّكتُ سريعًا إلى دير البلح، ولكنّي وصلتُ مُتأخرًا جدًّا؛ لأنّني مشيتُ مسافاتٍ طويلة، واستخدمتُ عربةَ الحِمار للوصول...

طوال الطريق وأنا أتصل بصديقي لكن الإرسال لا يمسك الاتصال، وحين وصلتُ إلى أرضه كان عازمًا على الرحيل فوجئ بي وأخذني بالأحضان، لم يكُن حضنَ لقاء... كان احتضانَ إيواءِ... قطعةِ الأرضِ الصّغيرة المزروعة بأحواضِ الخُضار المُختلفة وأشجار الزّيتون المُفرّقة، وقبلَ أن أسألَه كيفَ سنبني الخيامَ على أجساد النّبات وأرواحها، طمأنني أنّه أعدّ خُطةً لنعيشَ معًا من دون أن يتأذّى أحد ...

ساعدتُه في حملِ أشتالِ الخُضار ونقلها إلى أطرافِ الأرض، رسمنا هندسةَ الخيام آخذين بالاعتبارِ مكان وجودِ شجرات وشجيرات الزّيتون، الذي كان همُّنا الأكبرُ كيفَ نحافظُ عليها من دون أن تبلعَ الخيامُ شمسَهم...

كانَ الغروبُ بمثابةِ جرسِ الإنذار، علامةَ العودة إلى أماكن الإيواء، اتّفقنا على كلّ شيء، وافترقنا في انتظارِ عودتي غدًا بأسرتي وعائِلتي ...

اتصلتُ بوالدي وطلبتُ منه أن يُحضّر الأغراض ويربط الحقائب حتى نستيقظ باكرًا ونشد الترحال...

حين وصلتُ إلى شارع البحر كانت السيّارت تسير باتجاه واحد من رفح إلى دير البلح، تحمل المتاع والأشخاص إيابًا إليها، أمّا ذهابا إلى رفح فكان المشي هو نصيبي الأكبر، لا أعرف كيف كنت قبل الحرب أسير بمتعة البحر، أشتمّ عليل أمواجه ونسيمها، واليوم وبعدما قطعت مسافات كبيرة حتى إنّي لم أُلقِ نظري على البحر...

كان بالي منشغلاً تمامًا كأن هذه الأمواج على الطرقات خرجت من بحر غزة كي تُحدّثنا عن أحوالنا...

فكرتُ كثيرًا كيف لأمي المريضة بمرض مزمن أن تتعايش في الخيام؟! ولا يناسب مرضها عدم توفر الماء وخدمات الحمام...  كيف بعدما أنقذنا صديقي في رفح واحتوانا يؤول به المطاف في خيمة لا تقي من البرد والحر؟!

بدأتُ أُسلسل في رأسي ما نسيت من أغراض في بيت صديقي في رفح، خزّان الماء، فرشات، أدوات المطبخ، تركت البشكير والشامبو والصابون... ابتسمتُ مستنكرًا ذكرها في رأسي وقد تركت هناك في معسكر جباليا شقتي التي دمرها المحتل بما فيها من أثاث وكتب وذكريات...

وصلتُ إلى خانيونس وامتلأ قلبي بالرعب لمشهد الدمار الذي كانتْ تعكسه أضواء السيارات وكنتُ أراهُ مدينة أشباح... لم أحتمل هذا المشهد الذي لا يعطيني أي دلالات عن أسماء الأماكن التي أمرُّ بها...

جلستُ مُحطّمًا من طول الطريق يائسًا، بائسًا، مرهقًا من ثقل الأفكار...

أنقذتني عربةٌ كانت تحملُ راكبين في الأمام وأربعة ركابٍ في الخلف وثلاثة ركابٍ في حقيبة السيارة... وقف بجانبي وسأل: ذاهبٌ إلى رفح؟

انتفضتُ بجسدي نحوه وتحركت حول السيّارة أبحث عن متّسع...

ولكن أين أجلس؟

ضحك أحد الركاب وقال: اجلسْ بجانب السائق.

هذه السيارة استطاعتْ حمل ضعف حمولتها، ولكني شعرت أننا في هذه الحرب نحمل أضعاف أضعاف ما يحتمله البشر.

الساعة الآن إلا منتصف الليل... وصلتُ إلى الخيام وجلستُ مع صوت المدافع والطائرات وما زال الجميع يُرتّب الأغراض استعدادًا لفكّ الخيام... 

تكلم والدي مع أحد أقاربي ليؤمّن لنا شاحنة للنقل وقد حصلنا على ذلك بأعجوبةٍ، حين قبلنا بالتحرك فجراً...

اضطررنا إلى وصل النهار بالليل فلا يمكن احتمال هذه القنابل التي تتناثر سقوطاً ولا يمكن النوم تحت قصف الطائرات...

ألحّت زوجتي عليّ بأن أتناول بعض الطعام فقبلت فقط بتناول قطعة خبز محشوة بالحلاوة كي أمدّ جسدي بالطاقة، وانتهينا من ربط أمتعتنا قبل الفجر... 

جلسنا حول الأبناء ينامون على الأغراض، ومددنا أجسادنا للعراء ننتظر وصول سيارة الشحن ورفع متاعنا للنزوح الرابع مع شروق مجهول...

16 أيار/ مايو 2024

* كاتب من غزّة

 

نصوص
التحديثات الحية
المساهمون