في شارع الحرب

08 سبتمبر 2024
مقطع من عمل للفنان الفلسطيني أنس سلامة
+ الخط -

وصلت إلى شارع الحرب بكامل تأنقي، كنتُ على منعطف يخفي عني رصيفا تقيأ أحشاءه الرملية، وتناثرت حجارته، ثمّة نبع من دم ما زال غضاً تفوح منه رائحة الإنسان، رغم اختلاطه برمل الرصيف، بالقرب منه فتاة تحاول أن تقطع مسافة الرمل بكرسيها المدولب، تتعثر عجلات الكرسي بحجارة الرصيف، فتنقبض أساريرها المتعرقة، تحاول عبثاً أن تحرّك عجلة الكرسي، فينفجر ذات السائل القاني من ثقوب قضبان معدنية صقيلة غرستها يد الطبيب في عظام ساعدها غداة ذلك الانفجار.

تنظر نحو رجفة كفّيها وهما يقبضان على عجلات الكرسي، فتغلبها دمعة تشق طريقها وسط غبار خديها، فالدمع هنا حليف الانكسار.

تتفشى في مدى الشارع غيمة من دخان أسود تمتصّها كلّ مسامات الأبنية التي انهارت تباعاً، فوقفت أنتظر انقشاعها، حتى بدت سيدة تخفي في حجر ثوبها الفضفاض لفافة بيضاء مربوطة من طرفيها، لم تأبه تلك السيدة لبقع الدم التي امتصها القماش الأبيض من جسد رضيعها بعد أن شطرته شظايا الموت إلى نصفين.

كانت الريح الموبوءة بغبار أسود قد تركت على وجهي بعضاً من صبغتها، ولم أجد في الإناء المثقوب بجانب الرصيف قطرة تزيل عن وجهي ملامح الصدمة، فتقدّمت نحو طفلة تقرفص على حافة الرصيف، لم أفهم؛ لماذا تضمّ ذراعيها إلى صدرها، وحين اقتربت أكثر، وجدتها تحتضن دميةً مبتورة الأطراف، وكسرة خبز.

أخذوا شيئاً من أجساد أبنائي، ودفنت أنا ما تبقى خلفهم. أخبرني؛ كيف يكون للشهيد قبرين؟

للانفجار في مدى الشارع صوتان، أحدهما يسبق غيمة من غبار وحطام أشياء كانت للتو شرفة لأصائص الورد والعصافير، وقتار اللحم المحروق وبعض الأشلاء، وصوت آخر كأنه يشير إلى أعين العابرين وسط الدخان بلونيه بأن الانفجار كان حداً بين الموت والحياة، للقنابل دخان أبيض كأنها تزور حقيقة الموت فتنسجه أبيض كالأكفان، ولكل الأشياء الموءودة دخان أسود كثوب الحداد.

تقدمت بخطىً متئدة نحو كهلٍ ينظر نحو السماء إلى أرواح أحفاده التي تصعد تباعاً بعينين حمراوين، وبشعره الأشيب والأشعث ولحيته النابتة، يرمقني بنظرة حمراء، ثم يعرج بذات النظرة الحمراء إلى السماء كأنه غاضب منها وعليها، قالت بحّة الحزن في صوته المثخن، كانوا أربعة أطفال تركت معهم حلمي بأن يعود والدهم بعدما قصف منزلهم ولم يعثروا عليه، ثمة أمل بأنه ما زال حياً، فأنا لم أره ميتاً، قال الكهل وقد غلبه النحيب:
- لعله أرسل في طلبهم، فلبوا النداء.

فككت عني ربطة العنق، وألقيت بسترتي بعيداً، فبدا قميصي الأبيض متسخاً، لا بأس؛ الآن لن ينكرني أي من الخارجين لتوهم من فوهة النار بعد قصف بيوتهم.

سرتُ مرة أخرى إلى البيت التالي. كلّ ما رأيته كومة من الركام بحجم بيتين، لا أدري لمَ يبدو الركام بحجم بيتين. أكان ركام ذلك البيت وحده أم أن الانفجارات المتلاحقة أضافت ركام بيوت أخرى؟ ثمة صوت يخرج من بين ثنايا الغبار، يضيع شيئاً فشيئاً في صخب المنقذين وآلات الحفر الضعيفة، يخبو صوت المنادي، وتهدأ آلات الحفر، ينفض أحد العمال تراب الركام عن بزته، فيصرخ عجوز تعثّر مرتين في طريقه القصير إلى رجل الإنقاذ:
- ما زال أبنائي تحت الركام، كانت أصواتهم حية قبل قليل، أتوسل إليك لا تغادر، حاول مرة أخرى قد يخرجون أحياء.

نجوت بأعجوبة يقول الرجل، فقد كانت طائرة حربية قد ألقت صاروخين وانصرفت كي تصنع طريقاً لطائرة كبيرة أخرى

يذعن رجل الإنقاذ لرغبة العجوز ويحفر بأصابعه بين الحجارة، وكذلك كان نحيبه يعلو على صوت الرجاء كما فعلت آلات الحفر القديمة.

أمام المنزل التالي خيمة نازح أقامها قبل أيام بعد أن لاحقته طائرات الحمم الحمراء حول منزله الأول، خرجت سيدة في منتصف العمر تتفقد شارعها الجديد، وعادت مسرعة تجمع أشياءها وتحث ابنها على البحث عن أبيه، وعلى نحو مباغت، وضعت أكياسها أمام الخيمة لبدء النزوح التالي، ابتعدت قليلاً عن خيمتها كي ترقب في مدى الشارع عودة زوجها، فأفاقت بعد قذيفة في المشفى، وبجانبها كلّ الأجزاء المبتورة من لحم صغارها.

سألتني امرأة كانت تهرول حافية القدمين:
- أين يدفنون أشلاء الشهداء؟ بالأمس أخذوا شيئاً من أجساد أبنائي، ودفنت أنا ما تبقى خلفهم في باحة المنزل المهدوم، أخبرني؛ كيف يكون للشهيد قبران؟

أرهقني سؤال الكهل، فما عدتُ أقدر على السير خطوة أخرى، فجلستُ على جذع شجرة كانت قد قصفت قبل يومين، فأصبحت مقعداً بجوار حائط متصدع نتيجة ذات القصف، وفي باحة بين منزلين في الجانب المقابل لي، ثمة خيمتان لعائلتين نزحتا معاً، أخبرني أحدهم وقد أتى نحوي؛ تعلو وجهه مسحة غضب وكثير من غضون أيام وساعات تركت همومها عصية على الغسل كبقع الشمس حين تُعمل لهيبها في خدّ ناصع البياض.

يقول الرجل بلغة العارف بالمساحات الخلفية للقهر كيف تنبت فيها بذور النقائص، وكيف تمتدّ أيدي الحصار والتجويع والقتل والتشريد لترعى الدونية والشخصنة والطمع والسرقة، ويسأل، كيف يحفظ المرء قيمه في عالم يضعها على صدر إعلانات المطلوبين والكلمة الشهيرة "مطلوب" تتربع أعلى الإعلان على قارعة النزوح الدائم والمؤقت.

يردف الرجل، نزحتُ مع جاري وكلانا عاطل من العمل بعد تدمير دكاكيننا، ولم يكن حديثنا معاً يخلو من التذمر والضيق والشتم، فتنافرنا رغماً عنا، إذ نلوك الشكوى خبزاً، لكنهم حين أخبرونا أن طائرات الإنسانية تلقي حمولتها على رؤوس الناس هرعنا معاً لنأخذ نصيبنا من المساعدة المجانية، كان الطريق طويلاً فوصلنا متأخرين، لكن كثيراً من الناس ما زالوا على قيد الأمل بعودة الطائرة مرة أخرى، صرخ أحدهم: تلك الطائرة التي نسمع هديرها بنفس لون الطائرة التي ألقت حمولتها قبل قليل، لكنها أصغر قليلاً، لا بأس قد يكفينا ما قد تلقيه لنا.

نجوت بأعجوبة يقول الرجل، فقد كانت طائرة حربية قد ألقت صاروخين وانصرفت كي تصنع طريقاً لطائرة كبيرة أخرى.

أثقل الرجل صدري فسرت اتأبط خيبتي وشيئًا من هموم من صادفتهم في ذلك الشارع الغريب. نظرتُ خلفي قبل أن أبتعد عنه، كلّ شيء كان قد تغيّر، بدءا من قيمة الإنسان حتى حجارة المنازل، ففي كلّ لحظة شكل آخر يولد من صدر شكل مقيت سابق، خيمة النازح التي مررتُ بها قد احترقت، وجذع الشجرة الذي استضافني قبل لحظات أصبح هشيماً تذروه الرياح وغيوم الغبار.

المواصي. خانيونس
14 تموز / يوليو 2024.

نصوص
التحديثات الحية
المساهمون