رسالتان لوصال

19 اغسطس 2024
عمل للفنانة الفلسطينية ليان شوابكة
+ الخط -

(1)

الأحد 3 آذار/ مارس

صباح البنفسج الذي يُشبه جنون هدوئكِ يا وصال،

عذراً يا رفيقة الروح فإن مثلي لا أعذار له، فقد تأخرتُ بمعايدتكِ بأرق يومٍ هبت به نسائم الربيع باكراً، يوم صرختِ في أُذن الحياة بصوتكِ الذي هز رياحين الدنيا بأكملها، يوم مولدكِ يا مولدي الأول.

اليوم في مدينتي التي ارتدت الحُزن كانت رائحة الموت في غزة تفوق عزيمتي في العشق، فلم أكن قادراً على الهروب من مراسم الدفن السريعة، احتجتُ يوماً كاملاً لأستعيد توازني بعد خروج رائحة الموت من صدري، ثم ألتقط بعض العبير المُتدلي من صوتكِ المحفور في الروح لأقول: كل لحظةٍ وأنتِ حبيبتي ورفيقة روحي يا كُلي وتوأم قبلتي في العشق، يا روح قلبي الممتلئ عافية روحية وقلبية.

في مدينتي "غزة" التي تأكلها نيران الحرب الكونية، مدينتي التي سلبت وقار كرامتي وشطرت دماثة عقيدتي الوطنية، أقف وسط الليل البهيم الممتلئ صواريخ قاتلة هُنا وهُناك لأُعيد تراتيب أولويات مقاومة الحياة في غزة التي تُعاني الموت، فأجدُكِ وأنتِ في القاهرة في سُلم أولويات حياتي فتنزل النجمات لِتتراقص أمام ناظري بما يليق بشوقي وغيابكِ الذي يحتل مواطن الشغف.

كان بودي أن أُعيد بناء روحي بين ذراعيكِ هذا اليوم، فأنا الغريب والحبيب والعاشق المجنون والعائد من الحرب الهوجاء إلى موطن الطمأنينة، صدركِ المُخملي، لأدخل ساحة حرب أخرى من العشق حتى نهاية اللذة.

ضربٌ من الجنون في الحرب، أجدني أتساءل كثيراً كيف لمن لا يعشق أن يصمد أمام الموت!

لقد شعرتُ باللذةِ وأنا أبكي عدم تمكني من احتضانكِ هذا اليوم لأشتم رائحة الميلاد التي لا تُقاوم، لأشعر بحلاوةِ خلق الله لهذه الروح الياسمينية التي تجلى وكساها الحُب ليمسح على قلوب اهل الحُزن فيمحو الوجع والأسى فتنقلب أعينهم سعادة ذات لمعة مُشمسة.

شعرتُ هذه الليلة بالوحدة يا حبيبة الروح، فأنا أتألم في غيابكِ حد العذاب الذي لا يطيقه بشر، أكثر مما أتألم من صواريخ الحقد الصهيونية التي تقتل ينابيع العشق السرمدية، هذا العدو يُطفئ النور الشغوف ويحطم الزهور الودودة التي تستريح عليها الفراشات الندية.

صباحكِ يرضي عاشقاً مثلي أطال لحيته لأربعةِ أشهر حداداً على آلاف الشهداء، فلم يجد سواكِ يا حبيبة الروح، اليوم يا رفيقتي أقول لكل العالم الظالم أنني وسط الموت أُحبكِ وأراكِ حبيبة وأشعر بكِ مُحبة وألمسُكِ جمرة حُب لا تنطفئ ولو أحرقوا جسدي بصواريخهم سيخرج قلبي من بين الموت مُكتحلاً لا يرى من الحور العين إلا أنتِ.

كل عام وأنتِ الحبيبة القريبة للقلب، بعيدة كالقمر لكنك جميلة كالروح، برغم البُعد ومشقة الحدود إلا أن الحُب لا يقبل الموت.

هذه الليلة سأذكركِ كطفلة شقراء ذات جدائل ذهبية تُداعبين عيني وأنتِ تتقافزين خلف فراشات الجبل فأغفو ليلتي من  دون أي صوت للموت والدمار لأصحو على وجهكِ كأنه يوم جديد، أن الحرب حُلم وأن الحدود خيانة للحُب.

أما أنا يا رفيقة الروح فمستذِلّ عاشق مقاوم هنا بين رائحة ركام البيوت الممزوجة بجثث النساء العاشقات، لو تُرجمت أمنياتي لكِ في يوم مولدك البهيج لكانت هذه عبارة الرجاء:

اللهم إنّ كان هناك في أعمارنا يومٌ بعد يوم، فلا تُرني في حبيبة الروح وجعاً مشابهاً لما أحياه في غزة يوماً، واملأ أيامها عافية روحية وقلبية وجسدية، وهبها جناح فراشة لتهتدي دوماً إلى رحيق روحي إذا يوماً خانتنا معابر الحدود ومنعت قلب الحبيب من الوصول.

تمنيتُ صباح العيد أن يأتيني هدهد سليمان بلباس العيد سعيداً يتلو النبأ اليقين بأنكِ قادمة تجاه الحدود

الآن، أصوات صواريخ الموت تنهال على مدينتي وأنا منشغل بيوم ميلاد حبيبتي البعيدة، وكأني مشتاق لبحة صوتها بعنف أقوى من صوت قذائف الموت الحاقدة! نعم أنا العاشق الذي يقبض على الدهشة والعشق معاً وسط هذا الموت.

إنه العشق يا حبيبة الروح، ضرب من الجنون في الحرب، أجدني أتساءل كثيراً كيف لمن لا يعشق أن يصمد أمام الموت!

كُلما ضاقت الدنيا بي في هذه الأيام الصعاب داخل مدينتي الصامدة أمام الموت أنظر لصورتكِ أو أُرددُ اسمكِ فيعتريني الهدوء ويلفني السكون، وكأن يداً ملائكية مسحت على قلبي فهدأت من نفسي القلقة عليكِ واستقر نبضي المضطرب وانتعشت روحي، وكأنني أدخل جنة آمنة حينما رأيت ملامحكِ في الصورة القديمة التي تبتسمين فيهل للحياة، وربما يا حبيبتي أحرف اسمكِ وصف لمكان خرافي الجمال!

أشتاق يا وصال لحنو صوتكِ، ذاكَ الصوت الذي يُخرجني من الجفاف الذي يلتصق بصدري من غُبار أوجاع الحياة، يُصيبُني بنوبات عميقة من الحميمية، فألتقط هشاشتي سريعاً كطفلٍ سقطت منه قطعة الحلوى التي يرتجيها منذ زمن فيلتقطها سريعاً كالقابض على الحُلم وسط جدار العتمة، هذا أنا أيتها الحانية الأنيقة، ما هذه النعومة الوثيرة المتهادية بين متن الرواية الجديدة التي تملأ الأزمنة والأمكنة بنبوءات رِقتكِ المُلهمة الداعية لابتلاع القصيدة كدواءٍ مهدئ بعد نوبة هلع شديدة، فيشتد ألم صهيل الخيل الجموح في آخر أمتار السباق الطويل داخل روحي فتزداد لذة الزهو من أول رعشة حُب.

تلك اللذة التي تجعل النسوة العاشقات يقفن على رؤوس أصابعهن في صف كورالٍ خلف غمام سمفونية خرجت للتو من صحوة البلابل بعد غفوة قصيرة مُنذرة بشرارة صِبا مجنونة بين قلبينا وسط دهشة الزحام وسرعة تدفق ينابيع الشوق أمام مرأى العطاشى الذين يسرقون لحن الصهيل كتراتيل قُداس الحُب السعيد.

الآن أنهيت لملمة خوفي الليلي المُعتاد كي أتفرغ لمشاهدة صورتكِ على هاتفي المحمول بقصد تحسين مزاج روحي وكذلك مزاج مدينتي أيضاً، ليعمّ الهدوء قليلاً حتى أستطيع أن أتأمل ملامحكِ الرهيبة البهية الشقية.

كل عام وقلبك بمعزل عن رجال الدنيا إلا قلبي أنا، فراقك موت، كل عام وأنتِ قريبة لقلبي واحتضانة يدي.

حبيبُكِ العاشق ابن غزة الذي لا يؤمن بالموت بقذائف الحقد بقدر إيمانه بالموت عشقاً على صدرك.

حبيبُكِ الغريب


(2)

العيد

يا وصال العشق الأبدي كل عام وأنتِ العيد السعيد يا كل موطن البهجة

كل عامٍ والألق والبهجة يحتلان قلبكِ يا قلبي، كل عامٍ ولا حدود ولا موت يُبعدنا عن بعض.

صباح العيد يا خِلّي الوفي، أو على نحو أدق، إنه صباح حيث رائحة الموت تتفتق بين جدارن المدينة. تذكرتُ طقوسنا المجنونة يوم العيد، فأنتِ كالعيدِ تماماً يا وصال مختلفة وتبُثين البهجة، فالنظر في وجهكِ النوراني يهب الفرح للكونِ كله.

أنا يا سيدتي من حنين الوجع مُتعبٌ، سأدعوكِ بالوجع الجميل وسط التكهنات بزمان الموت في مدينتي التي تُقصف الآن بجنون لا مثيل له، والآن يا وجعي الرابض على صدري دُلني من أين لي بصدرٍ واسع بدل وطني الذي استُشهد وحيداً؟

الآن وحيدٌ وسط الركام دون أدنى مواساةٍ، عيون اليأس صامتة مقيدة في الجنوب الغائر في زحام الأنين.

أنا من عشق الوطن متعبٌ يا سيدتي، من شدة حنيني الخارق للذكرياتِ الهاربة تحت زحام أقدام الغُزاة الماكرين، المتلذذين في قتل الجمال والأحلام وحرق قصائد الغزل.

صباح العيد يا جميلتي، أُغمض عيني لأراكِ تتأنقين برونق العيد، أُؤمن أنكِ جميلة كالمعتاد إلا أنك بحضور العيد تبدين أبهى كطفلة أنيقة ذات جدائل ذهبية أو فراشة راقصة بألوان زاهية.

يا حبيبتي لا أرى بارقة أمل في انتهاء هذا الجنون اللا بشري، ولا أؤمن بنظرية الخديعة بعد الآن، كل ما سيعلق بذاكرتي هي العنصرية السادية التي مورست ضدنا نحن الأبرياء في غزة، فمن ينقذ مدينتي الحبيبة من فم الغول المتوحش؟

كل ما أملكه أن أفتش في خيالاتي عن زمن العروبة وانتصابة الرمح العفية لكن دون جدوى، أراها وهماً كوهم أن تلكَ الحسناء الثرية التي ترتدي أثمن الثياب وتُزين عُنقها اللوزي بعِقدٍ من الألماس البهي الغالي لتغري ذاك الكهل لليلةِ عشق لا تحدث، في كلتا الحالتين يا "وصال" حصنتُ نفسي بالتجاهل واستنباط الذرائع كي أُحب ما تبقى من العروبة كما يفعل ذاك الكهل الشقي حينما يتعلق بتلك الأرستقراطية النديّة!

صباحاً أرى ألوان الطيف تحتل جفنيَّ المتعبين من انتظار الموت الطارئ على مدينتي التي اعتادت الفرح ولم تعتدِ البكاء على قبور الراحلين، ما زلتُ أراقب الجنوب لأني مؤمن بأن قلبي في قفص صدركِ هُناكَ لا يُباع ولا يخون، أرقبُ نهوض ظل الموتى من المقابر مهرولةً ابتهاجاً بزوال الموت، لإنارة فرحة الدموع المتراقصة في جفون الأطفال الذين بالكاد يستطيعون الوقوف على أقدامهم النحيفة، أقف على الناصية قلقاً بين الفرح والحزن، أُرتل نصاً سحرياً بأني ما زلت عربياً ناصرياً قومياً أُؤمن بأن الفارس الهُمام العاشق لا يُدير ظهره إيذاناً بالرحيل.

هذا أنا سأُقبّلُ وجهُكِ يا كل جهاتي واتجهاتي، هاكِ يدي لا تدعيها إلا وقت انتحار الوهم الأخير برغم إيماني أن قلبكِ موطني، فلا أدري لماذا أنا الآن خائفٌ من المجهول!

أنا لن أترككِ يا وصال رغم الحدود وخيانة القريب والبعيد، رغم خوفكِ من الاقترابِ من الحدودِ لاحتضاني من خلفِ الجدران الإسمنتية الصماء الباردة، لقد قُلتِ لي ذات يوم أني أبوكِ والأب لا يترك يد ابنته ولا يخون عهداً.

تمنيتُ صباح العيد أن يأتيني هدهد سليمان بلباس العيد سعيداً يتلو النبأ اليقين بأنكِ قادمة تجاه الحدود وقد ثقبتِ حفرةً صغيرة لترسلي لي قُبلة الصمود!

ربما يأتيني هذا الهدهد العاشق بنبوءة الفرح فيجمع الله بين قلبين شتّت بينهما الاحتلال والحدود والمسافات الشاسعة، كل منا في جهةٍ معاكسةٍ هرباً من الموتِ رغم أن كل شيء موحشٌ من دون يديكِ، فأنا عاشقٌ مهووسٌ تشفى جراحي ومخاوفي بقربكِ فقد طال الشوق الآن يا وصال وعجز عن مداواة آهاتي الأطباء والدواء.

يا وصال لما زالت روحكِ العذبة تُرافقني طيلة أيام الحرب الموحشة، جعلتي الأشياء أقل بشاعة من المعتاد بل ومختلفة نوعاً ما، وجهُكِ الذي كساهُ الله بالطمأنينةِ يتجول معي فيطمئن لي المارة بدون أن يعرفوا أنكِ السرَّ، في الحرب اكتشفتُ أن البُعد خُرافة العُشاق الضعفاء، نعم في البُعد تُزهر روح المشتاق كما اللقاء تماماً، ما يُذبل الروح هو عدم الأمان حتى لو تنام في حضن الآخر.

نحن العشاق لا نكره يا وصال الروح إلا إذا تألمنا من الحُبِ وخيانة الصديق والحبيب والقريب وأبناء العروبة، الآن الوجع يتراكم يا سيدتي وأخاف أن أصل لمرحلة لا أستطيع التحمل بعدها، لا أريد الاستسلام فربما وقتها يتغير قدري!

الاستسلام يعني الموت يا سيدتي، لذلك لن أستسلم وسألقاكِ رغم أني أراكِ، سأبقى ألتقيك عبر الروح يا حبيبة الروح. لقاؤك يُقوي الصمود أمام ماكينة الموت التي لا تهدأ ويُمَتن رقائق القلب الذي يتجرع الحزن كل لحظة. أشعرُ بكِ تهزين كياني حينما أصمت تهتفين: هيا يا حبيب الروح قاوم من أجلنا أنا وفلسطين، لا تستلم أبداً، لديك معي لقاء أكيد لا شك فيه، لقاء حميمي مجنون يُشبه صمودك الأسطوري، لديكَ صدر شاق بكَ ولكَ، تنتظرُك عينان متشوقتان لِتُلهمهما الكثير من الرقة، وهاكَ يديَّ ترتجفان، تحتاجان يديك لتقبضا عليهما فتهدآ للأبد.

واصل يا رفيق صمودك الأسطوري وسط هذه الحرب الشرسة، إنه وقود الإيمان والحُب القويم من أجل البقاء كعاشقٍ يحرق بقايا الحقد الأسود العالق في مجرة الإنسانية.

يا أيها الغريب العاشق: كلما دفعتك الحرب المجنونة أن تجثو على ركبتيك ارفض ذلك بل صلِّ لربك ركعتين فإن الجثو هو الوضع المناسب للصلاةِ.   

أنا يا وصال القلب أبكي من الوجع وأهوال الحرب القذرة نهاراً وفي الليل أنزوي لأبكي شوقاً، رغم الخوف الرهيب من الموت إلا أنني لم أتجاهل غيابكِ القسري فأنا متعبٌ من الانتظار، من الشوق، متعبٌ لأني تعودت الألم، ربما أحتاج إلى قضاء الكثير من الوقت مع دموعي وربما خارج حياتي أنا، لا أعرف كيف سألقاكِ وبداخلي كل هذا الوجع الذي لا يُطاق؟ وجع حوّل قلبي لروايةِ رعب طويلة فأهوال الحرب كانت تحتاج لألف قلب عظيم يسكُنني.

كل عام وأنتِ عيدي السعيد، فالعيد أن أرى وطني بلا موت وأن أراكِ بين جفني ضاحكة وكأنكِ عيدٌ وباقي النساء أيامُ صيام.

حبيبُكِ المشتاق 

الغريب


* روائي من غزّة

نصوص
التحديثات الحية
المساهمون