بين الشك واليقين

04 سبتمبر 2024
عمل للفنان الفلسطيني سمير سلامة
+ الخط -

مثقلٌ بذنوبي وذنوب العالم، كأسي مليئة يغبّ العالم منها ويزيد، نهمٌ مفرط للحياة يملؤنا ثم ماذا؟! تعذبنا الشكوك وتنهب أجسادنا بكل ما فيها من استقرار، فراغ مطلق ذاك الفراغ الذي تتركه، فراغ إن تملّكنا متنا ونحن على قيد الحياة، الشك واليقين مفردتان تراودانني منذ مدة، أفكر كثيراً ولا أجد الجواب.. لا أجد الخلاص.

عندما يولد طفل جديد تقرّر الحياة كم سيعيش وكم ليلة سينام، هذا ما أؤمن به منذ كنت صغيراً، كلّ المعاني تتغيّر في حربِ الإبادة التي نعيشها، ولعلّ أكثر الأشياء التي أحبّها باتت جحيماً حارقاً لا يمكن تجاوزه، هو الليل عشقي الأزلي، الليل وحده ما كان يرمز إلى السكينة والهدوء، والانعزال والتأمل. في كثير من الأحيان، كانت ابنتي "إلين" تأبى النوم إلا بعد ممارسة طقسنا اليومي المتمثّل في الجلوس فوق سطح البيت متأملين السماء المليئة بالنجوم التي يتوسطها قمر كبير ليبدأ بالتقلص مع كل ليلة، تنام إلين في حضني هائمةً في بياض القمر مسحورة تظل تقفز بين النجوم إلى أن تغفو شيئاً فشيئاً وكأن القمر يسرق يقظتها تدريجياً، أنزل بكلّ خفّة درج البيت وأنا أحملها بين أحضاني، أودعها في سريرها بكل هدوء وننام في عتمة الليل الحنون، أذكر جيداً كم كانت آخر ليلة قبل بدء الحرب هادئة وصافية، كم كانت مستقرةً ودافئة، تحدثت فيها مع زوجتي عن كلّ ما هو آتٍ، مشاريع، ومستقبل، والتقديم للجنسية المصرية فجدّتي من مصر، والسفر، والراتب الجديد وكم يمكننا الادخار منه، تحدثنا عن كل شيء حالم ووديع..

صباحاً استيقظنا على أصوات مريبة، لم ندرك جيداً في أولى لحظات الصباح أنها كانت الليلة الأخيرة التي ننام فيها نوماً هنيئاً، تابعنا قنوات الأخبار فوراً وعرفنا أن القادم لا يمكن وصفه إلا بالخراب، ابتلع اللون الأحمر كلّ تفاصيل السواد في ليالينا، والضجيج أعلن حضوره وهيبته معلناً قصف أماكن جديدة، كلما سألتني ابنتي عن هذه الانفجارات وهي ترتعش خوفاً ضممتها سريعاً وقلت: لا تخافي يا ابنتي هذه أصوات انفجار بالونات كالتي تحبين اللعب بها. 

لعلّ أكثر الأشياء التي أحبّها باتت جحيماً حارقاً لا يمكن تجاوزه، هو الليل عشقي الأزلي

الهدوء السرمدي والعزلة الليلية باتت كوابيس حيّة وانقلبت إلى صراع خانق من الرعب والقلق واستجداء النوم، إلين لا تستطيع النوم إطلاقاً ومن منا يستطيع، أدعو الله أن تنام، أمّا أنا فليس مهماً على الإطلاق أن أنام أم لا، أصوات القصف توقظنا مرة تلو الأخرى، انقلب هدوء الليل وحشاً من صخب يأكل قلوبنا، وأصبحنا ندعو الله أن يثبت شمسه في كبد السماء وألّا يأتي الليل إطلاقاً، لم يحدث ما تمنيناه وباتت إلين وأطفال غزة بأكملها يخافون النوم ليس من صوت القصف أو رعب حمم النار المتساقطة فحسب، ولكن خوفاً من حساب الحياة لأيامهم التي ناموها، كل طفل بات يخشى أن تكون تلك ليلته الأخيرة، فقرروا ألا يناموا ليلاً ولا نهاراً وبهذا لا يمكن لأعمارهم أن تنقص.

سألتني زوجتي بعد عدّة أشهر من الحرب ولكن هناك أطفال ماتوا، ما تفسيرك؟! أجبت: هم تعبوا من صحوتهم، فأخذ كل منهم غفوة سريعة من دون سطوة منه على جسده، فتسلل الموت في الليل ليخطفهم ويضع حداً لأعمارهم ومعاناتهم.

اليوم المائة للحرب أي إننا لم ننم جيداً منذ أكثر من ثلاثة أشهر وما زلنا نهرب من الموت مع كلّ غفوة، وما زالت إلين تحارب الليل وخوفه كلما سمعت قصفاً قالت: متخفوش.. هاد بالون كبير وصوته عالٍ، صح يا بابا؟!، أجبت: صح يا بابا، عندما تسكت أصوات انفجار البالونات سنصعد إلى السطح مرة أخرى ونتأمل القمر والنجوم لننام من دون خوف أو قلق، ردت إلين: يا رب يخلصوا البالونات بسرعة. ساد صمت طويل قبل أن تهرب من عيني دمعة ثقيلة، شددت على يد ابنتي وقلت: يا رب يا بابا.. يا رب.

جلستُ أمام البحر تأملته كثيراً، لا شيء مطلقاً يجول في رأسي، فراغ مخيف وبرودة قارسة اجتاحتني

ثم نمنا نوماً مرتجفاً، نوماً يتربص به اليقظة والقلق.
-    أين أنت؟!
-    هنا حيث وصلت الدبابات وخاف الناس.
-    عند نزوحك أين رحلت؟!
-    هناك عند الأمان الزائف. 
-    ماذا تقول في وطنك؟!
-    كما قال غسان كنفاني لصفية "الوطن ألا يحدث هذا كله".
-    هل تعبت؟!
-    جداً ولا أعرف متى ينتهي ما نحن فيه.
-    استدر واخرج من ذلك الباب. 

التفتُّ خلفي وكان باباً أبيض يوحي براحة وبرودة ناعمة، مشيت مسحوراً دفعت الباب وخرجت بعد أن غشاني نور أبيض ناصع، استيقظت من نومي فوراً وفي لحظة إدراك عابرة نظرت إلى جسدي المتعرق وتنفسي المتسارع، كأنني توقفت عن الجري بعد هربي من وحش ما، كانت تلك آخر ليلة أبيتها في بيتنا، كان ذاك اليوم حين أمطرت مناشير ورقية مفادها إخلاء المنطقة التي أسكن فيها لأنها منطقة قتال خطيرة.

مطرٌ من أوراق متساقطة نذير شؤم اجتاح المكان، أطفال يركضون مئات الأمتار يلتقطون بعض تلك الأوراق، يصرخون، يبكون، لقد حلت الكارثة.

أجلس وسط حوار صارخ وترامٍ بالكلمات بين الأعمام والأخوال، أبي كان واضحاً (لن أترك بيتي حتى لو ذبحوني)، أعمامي وآخرون يصرخون (معنا أطفال ونساء كبار في السن، لا طاقة لنا بالجري هنا وهناك إن اشتدّ الوضع)، أما أنا فأنظر إلى ابنتي إلين صاحبة الثلاثة أعوام وهي تركض هنا وهناك متجاهلة كل مخاوفنا لتلهو خلف فراشة دخلت البيت خلسة، كانت الشك الوحيد واليقين لكل سؤال، صرخت (أنا اتخذت قراري، غداً سأخرج أنا وعائلتي، ولن يحدث في ملك الله إلا ما أراد الله)، نظرت إلى جدي يساراً وأنا الذي كان يلومه على خروجه من البلاد باستمرار، نظرت إلى ابنتي في الجهة المقابلة... وبكيت.

في مواصي خانيونس وقريباً جداً من البحر نصبنا خياماً وانشغلنا بوضع أغراضنا إلى أن فاجأني سؤال زوجتي (أين اختفت إلين؟)، ركضت حول الخيام المترامية بعشوائية مفرطة، بين أوتاد الخيام والأشجار خلف الحائط القريب، سريعاً التفت حول خيمتنا بعد أن سمعت صوت ضحكات قادمة من هناك، هذه المرة وجدتها تركض خلف خنفساء حمراء. التقطت صورة لأولى لحظاتها هناك، جاءت زوجتي سألتني"جميلة"؟؟

مددتُ يدي فتحت الهاتف أريتها الصورة ابتسمت وقالت جميلة جداً، أما أنا فلاحظت للتو ظهور الخيمة في الخلف فضاق صدري حد الجنون، خرجت من هناك سريعاً جلستُ أمام البحر تأملته كثيراً، لا شيء مطلقاً يجول في رأسي، فراغ مخيف وبرودة قارسة اجتاحتني.

في بلادي يختلط الشكّ باليقين، فإن كنت تحب الشتاء لأجل المطر فستكرهه حين تمطر أوراقاً تنذرك بالإخلاء لأن مكان بيتك مربع قتال خطير، وإن كنت تحب الليل لسكونه وهدوئه فستكرهه لصخبه وخوفه وأصوات صراخ المستغيثين من قصف يملؤه وأصوات إسعافات تخرق هدوءه وصواريخ تقلب سواده نهاراً بلون الدم بين الفينة والأخرى.

في بلادي ستتأرجح باستمرار بين الشك واليقين، فلا يمكن أن نحكم على أفعال مضت لأجيال سبقتنا بيقينٍ مهتز، ولا بشك ثابت. كل ما أريده أن يذهب الشك واليقين إلى الجحيم وتبقى عائلتي وابنتي بسلام.


* كاتب من غزّة

نصوص
التحديثات الحية
المساهمون