امرأةٌ من زماننا

21 ابريل 2023
الشاعر السوري نوري الجراح وابنته مع سلمى الخضراء الجيوسي في بيتها بلندن، 2010
+ الخط -

ما كان ليخطر في بالي في تلك الصبيحة من خريف 1986، وأنا أقف بباب ذلك البيت ذي الطراز الإدواردي الواقع وراء زاوية شارع هارينغتون في منطقة غلوستر رود، أنّ موعدي مع السيّدة المرموقة التي تقطن هذا البيت كان موعداً مع القدر الذي سيجعل منها الأُمّ الثانية لي، ليست الروحية فقط، ولكن حتى تلك التي ستؤنّبني على نحولي وهي تقدّم لي صحن الطعام، وتحمل لي من بوسطن كنزة الصوف في الشتاء، وفي الأوقات الصعبة، بلطف، ستدسّ في جيبي بعض النقود. تلك هي سلمى التي طوت صبيحة أوّل من أمس الصفحة الأخيرة في كتابها.

وإذ هي تودّع عالمنا اليوم عن عمر مديد شغلته بحضورها الاستثنائي كشخصية قوية في عالم ثقافي يحكمه الرجال؛ شاعرة مميزة، وناقدة بارعة، ومؤرّخة شعرية من طراز رفيع، ومترجمة اشتغلت على أنطولوجيات شعرية ونثرية عربية كلاسيكية وحديثة، دفعت بها إلى واجهات كبريات المكتبات في الغرب، وفي دوافعها همّ نهضوي مقاتل ذو نزعة حداثية يريد أن يُحرّر جرحه الفلسطيني بإنصاف انتمائه إلى الوجه الباهر للثقافة العربية، ويجعل للأدب العربي في العالم الأنكلوساكسوني شأناً، وقد أدّت سلمى، بلا أدنى شك، قسطاً منظوراً، بل قسطا فاتحاً في هذا المسعى.

قامة عربية شاركت في صنع سبعين عاماً من الحياة النابضة بالثقافة

منذ سجالها النقدي مع يوسف الخال في خمسينيات القرن الماضي حول قضايا التجديد والحداثة (في الصحافة اللبنانية وفي خميس مجلّة "شعر")، مروراً بكفاحها في بيئة ثقافية أميركية لا وجود ولا اعتراف فيها لشيء اسمه الثقافة العربية، وصولاً إلى مطلع الألفية الثالثة، وكانت قد حقّقت ونشرت العديد من الأنطولوجيات الأدبية الفلسطينية والعربية في إطار "مؤسّسة بروتا" وتمكّنت من إقناع كبريات دور النشر الجامعية بنشر هذه الأعمال، هنا تكمن مأثرة سلمى الخضراء الجيوسي التي لا بدّ أن تكون أسهمت بطريقة غير مباشرة في تمهيد الطريق لمشروعات عربية مشابهة، أبرزها مجلّة "بانيبال" التي عنيت بنشر نماذج من الأدب العربي بالإنكليزية، وتوقّفت مع الأسف بعد ربع قرن من الصدور.

في شتاءات لندن ومن وقت إلى آخر، قرب موقد النار في بيت ابنها أسامة، الذي فُجعت بفقده قبل سنوات، قرأتْ لي من قصائد "العودة من النبع الحالم"، ديوانها اليتيم. كانت تملك صوتاً شعرياً لا يشبهه صوت آخر بين معاصريها من الشاعرات والشعراء. بحزن كانت تقرأ، وإذ تقطع قراءتها لحظة استرجاع، أو تذكر، أو انخطافة صمت، كان يلوح معها على وجهها طيف من أسى. ولطالما ردّدت: هل كان يجدر بي ألا أقوم بأي شيء ممّا قمت به حتى أبقى الشاعرة؟ كلّ ما في حياتي سرقني من الشعر وحرمني من القصيدة، بل وحتى من جزء كبير من حياتي العائلية... إنها المهمّات الكبرى يا عزيزي!

علاقتي بسلمى كانت باستمرار قائمة على المحبة والتقدير والاعتراف بقيمة الموهبة والجدارة. من هذا المنطلق، أفردتُ العدد التاسع من مجلّة "الكاتبة" التي أصدرتُها في مطالع التسعينيات لتجربة سلمى شاعرةً وناقدةً ومترجمةً، وقد احتفت بها في ذلك العدد ألمع الاسماء العربية والأجنبية، من إدوارد سعيد إلى دينيس جونسون ديفز، ومن خلدون الشمعة وصبحي حديدي وسليم بركات إلى ألن براونجون ولزلي ماكلاخلن، وعشرات المستشرقين والمترجمين وكتّاب الأدب ونقّاده الأنكلوساكسونيين. وحمل العدد العنوان: "امرأة من زماننا".

ثمّة الكثير ليُقال في سلمى؛ أكان في علاقتي الشخصية بها كأُمّ ثانية، أو كقامة عربية شاركت في صنع سبعين عاماً من الحياة النابضة والمغامرة للثقافة العربية.

رحلت أُمي السورية ولم تُمكنّي الأسلاك الشائكة المحيطة بالمسلخ الكبير من وداعها، وها إنّ أُمّي الفلسطينية التي استضافتني خيامُ أبنائها في بيروت ترحل ولا يُمكّنني المنفى من وداعها.


* شاعر من سورية مقيم في لندن

آداب وفنون
التحديثات الحية
المساهمون