سلمى الخضراء الجيوسي.. عقود من الترجمة لا يشرحُها إلّا الكرَم

22 ابريل 2023
سلمى الخضراء الجيوسي في بورتريه لـ أنس عوض (العربي الجديد)
+ الخط -

كثيراً ما ترتبط البداياتُ بحكايات نُخبرها لأنفسنا ونصدّقها مع الوقت، رغم غرابتها حيناً، ورغم بُعدها النبوئيّ المبالَغ به حيناً آخر. وإذا كانت بدايةُ سلمى الخضراء الجيوسي مع الترجمة شبيهةً بهذا النوع من القصص التأسيسية، فإنّ نهاية قصّتها، والنحو الذي جرَتْ من خلاله عبر عقود من الزمن، يمنحانها ما تحتاجه حكايةٌ ما لتُوصَف بالواقعية والحقيقية: شهودٌ عديدون وبراهين مادّية.

هذه الحكاية أعادت الجيوسي روْيَها في كثيرٍ من المرّات، وكثيرٍ من اللقاءات، بالعربية والإنكليزية، مثل هذا اللقاء الذي أجراهُ معها صحافيٌّ من جريدة "ذي هندو" (بالإنكليزية)، مطلعَ 2020. تقول: "أسّستُ مشروع 'بروتا' [PROTA ــ اختصاراً لـ"مشروع ترجمة الأدب العربي إلى الإنكليزية"] عام 1980. وفي عام 1984، زرتُ مكتبة أكاديمية 'نوبل' في استوكهولم، حيث كنت قد جئتُ لأحضر ندوةً حول الشعرين السويدي والعربي. حينها صُدمت وتألّمتُ عندما اكتشفت أنّ كلّ ما كانوا يملكونه من الأدب العربي لا يتعدّى أربعة مجلّدات صغيرة وبالكاد تُلحَظ. كان معي في ذلك اليوم الشاعر التونسي منصف الوهايبي. حينها، اتّخذتُ قراراً بترك كلّ شيء وتكريس نفسي للتعريف بأفضل ما في الأدب والثقافة العربيّين باللغة الإنكليزية، ولتقديم أدبنا، من دون تردّد، على المشهد العالميّ".

أن تعطي من ذاتك ووقتك ما يعود في المحصّلة على غيرك

حتّى تلك اللحظة، لم تكن الشاعرة والأكاديمية الفلسطينية غريبةً عن الترجمة، التي عرفتْها على المقلب الآخر: في النقل من الإنكليزية إلى العربية. إذ ترجمتْ، بعد نشْرها مجموعتها الشعرية الأولى والأخيرة ("العودة من النبع الحالِم"، دار "الآداب"، 1960) عدداً من الأعمال الفكرية والنقدية البارزة، التي كانت قد صدرت للتوّ أو منذ سنواتٍ قليلة في الأصل الإنكليزي، مثل "إنسانية الإنسان" للفيلسوف الأميركي رالف بارتون بيرّي (منشورات "مكتبة المعارف"، 1961) و"الشعر والتجربة" لمُواطِنه الناقد والشاعر أرشيبالد مكليش (دار "اليقظة العربية"، 1963). غير أنّ عملها بالتدريس في الولايات المتّحدة منذ منتصف السبعينيات سيأخذها إلى المقلب الآخر، وهو الذي أتاح لها، إلى جانب مياومة الإنكليزية أكثر (وهي لغةٌ درستْ بها طفلةً في القدس وشابّةً في بيروت)، ملاحظةَ النقص الكبير في المَراجع حول الثقافة والأدب العربيّين، وذلك حتّى في بعض المؤسّسات المختصّة بتدريس الضاد وأدبها.

هكذا، إذاً، ستبدأ المهمّة التي ستمنح السنواتِ التاليةَ من عُمر الجيوسي شكلَها. في أوّل الأمر، ستشتغل الراحلة على أعمالٍ فردية، مثل "الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل" لإميل حبيبي، الذي نقلْته، ضمن مشروع "بروتا"، بالتعاون مع تريفور ليغيسّيك، وصدر في لغة شكسبير عام 1982. لكنّها سرعان ما ستنتبه إلى أن الوعد الذي قطعتْه على نفسها ــ التعريف بالأدب العربي في العالَم الأنكلوفوني ــ يحتاج إلى هجران التجارب الفردية، وإنْ مؤقّتاً، والعمل وفق نظرة أكثر جماعيةً وتكثيفاً ــ وهو ما ستجد له صيغةً مناسبة في الأنثولوجيات، هذا النوع من الكُتب الذي يسعى إلى إعطاء نظرةٍ موسّعة إلى أكبر قدر ممكن حول موضوع ما (أصل الكلمة مؤلَّفٌ، في اليونانية القديمة، من "أنثوس"، أي زهرة، و"ليخو"، أي قطف أو قِطاف ــ وهو ما يُحيلنا إلى عبارة "من كلّ بستان زهرة" في العربية). بين عامَيْ 1987 و2010، ستُحرّر الجيوسي وتُترجم نحو عشر أنثولوجيات، ستترك أثراً بالغاً على حضور الأدب العربي في اللغة الإنكليزية وعلى الاهتمام به. 

أنثولوجياتٌ نوّعتْ فيها قدرَ ما استطاعتْ: من "الشعر العربي المُعاصِر: أنثولوجيا" (1987) إلى "موسوعة الشعر الفلسطيني المُعاصِر" (1992)، مروراً بـ"السرد التخييلي العربي المُعاصر: أنثولوجيا" (2005)، و"الأدب المعاصر في الجزيرة العربية: أنثولوجيا" (1988)، و"نصوص مسرحية عربية قصيرة: أنثولوجيا" (2003)، أو "قصص عربية تراثية: أنثولوجيا" (2010). وكانت، في كلّ واحدة من هذه الإصدارات الضخمة التي صدرت لدى دور نشر مرموقة، لا تكتفي بتوفير مادّة كبيرة بين يدي القرّاء فحسب، بل تحبّر مقدّماتٍ وشروحاتٍ من شأنها تسهيل الفهم وتقريب السياق الذي وُلدت فيه تلك الأعمال من القرّاء، كما تفعل، على سبيل المثال، حين تشرح، في مقّدمتها لـ"قصص عربية تراثية: أنثولوجيا"، أنواعاً كتابية عربية مثل الأخبار والمقامات.

وإذا كانت سلسلة الموسوعات هذه تبرهن على اطّلاع الجيوسي الواسع وتمكّنها من ثقافتين ولغتين كانت، هي نفسها، من أبرز مَن ساهموا في تعرّفهما إلى بعضهما أكثر خلال العقود الأخيرة، فإنها تُثبت، في الوقت نفسه، شغفها، بل هوسها، من أجل الذهاب إلى أبعد حدٍّ ممكن في مشروعها وفي المهمّة التي منحتْها لنفسها. مشروعٌ يتجاوز شخصَها إلى الثقافة التي جاءت منها، وهو ما كان يتطلّب منها كرَماً مستمرّاً؛ كرمَ أن تُعطي من ذاتك ووقتك ما يعود، في المحصّلة، على آخرين: على المؤلّفين القدماء والمعاصرين الذين تُقدّمهم، وعلى القرّاء الذين تتوجّه إليهم، وعلى الثقافة التي جاءت منها.

موقف
التحديثات الحية
المساهمون