تحوّلات الحنين

22 ابريل 2023
من زخارف "قصور الحمراء" في غرناطة، 2017 (Getty)
+ الخط -

ربّما كان أهمّ جنوح للشعر الأندلسي عن مسار الشعر في المشرق هو ضعف عنصر الحنين فيه بالنسبة إلى الشعر المشرقي. ويتّضح هذا النقص حتى عند شاعر شديد التعلّق بالقديم مثل ابن هانئ، على ما يتوهّج في عبارته من حماس للعقيدة الشيعية (وهو حماسٌ يختلط دائماً بعنصر الحنين العميق في شعر الشيعة في المشرق).

إنّ طبيعة هذا الحنين هي من طبيعة الشعر التراثي نفسه، انحدر إليه من الجاهلية وكان يتغذّى من حياة التنقُّل في الصحراء، من وحدة الإنسان وما يحكمه من فراق مستمرّ، من فقدان مُفاجئ لأشياء عزيز على القلب: العزّة والحرية بعد هزيمة في غزوة مفاجئة؛ الحبّ؛ الأشياء الحميمة. وكان ثمّة كذلك التنقّل الدائم الشامل في المنازل بفعل الترحال والانتقال في طلب الكلأ. ثمّة صوتٌ معذَّب في الشعر القديم، فيه تمزُّق ومعاناة، وارتعاش على حدود الحياة والموت، دائم الوعي بتقلُّبات الزمن، وبمخاطر الوجود ومخاوفه.

لكن شيئاً من هذا لا يصدُق على الشعر الأندلسي، على كثرة الحروب والاضطرابات. وعندما حلّت المآسي في القرن الخامس الهجري (الحادي عشر الميلادي وبعده)، وعمّ اضطراب مفاجئ مروّع في وجود من كان ينعم بالعزّة والشموخ، استجاب الشعراء للأمر بأساليب واضحة المعالم. يصف ابن شُهيد التفكّك والكابوس الذي نزل على قرطبة أيام الفتنة بين 1009 - 1031م؛ ويندب ابن اللبانة أُفول نجم صديقه وراعيه الملكي المعتمد ابن عبّاد؛ ويكتب الرُّندي مرثيته الكبرى حول ضياع قرطبة؛ لكن أسى هؤلاء الشعراء ملموس، محدَّد وشديد الوضوح في ما يشير إليه، يرتبط بموضوع الرثاء المحدَّد، والحنينُ فيه يتّجه نحو حدث معيَّن أو مكان معيَّن.

أمّا في المشرق العربي، من الناحية الثانية، فقد تبقّى في الشعر صوتٌ صحراوي شجيّ، مثل ناي وحيد، وما يزال يوجد في هذه الأيام، لا في الأغاني الشعبية في جبال لبنان وفي بطاح الأردن وكثبان العراق فحسب، بل حتى عند شعراء الطليعة المعاصرين. ثمّة الكثير من الحنين والحزن يُسري من تضاعيف الروح العربية في شتّى مظاهرها؛ والواقعُ أنّ الروح العربية طالما غيّبها الحنين واستعادتها الذكرى. لماذا لم يكن الأمر كذلك في الأندلس؟ أحدث ذلك في المشرق العربي بسبب استمرارية التقاليد الشعرية إلى جانب التقاليد الاجتماعية، والتواصُل غير المنقطع في الحوافز منذ العهد الأموي؟ أكان السبب أنّ الذاكرة الأندلسية قد أصابها انقطاع كامل عن حياة الصحراء وروحها الباقية، بينما كان أغلب الشعراء مرتبطين بأسلوب حياة حضري؟ أكان السبب أنّ "اللذّة" كانت مطلباً يمكن نواله في مدن الأندلس المزدهرة التي كانت تزخر بالجواري والغلمان إلى جانب أنواع أُخرى من الملذّات؟

مهما يكن السبب، فإنّني لا أجد في هذا الشعر لوعة الروح، وضياع نفس الشاعر والعطش الذي يبقى أبداً دون ارتواء وشبع ورضا؛ شعر فراغ وراحة لدى شعب منغمس في تجربة يكشف عنها بكلمات مشتبكة مزوّقة.


* مقتطف من دراستها "الشعر الأندلسي: العصر الذهبي"، المنشورة في كتاب "الحضارة العربية الإسلامية في الأندلس" (1992)

موقف
التحديثات الحية
المساهمون