استمع إلى الملخص
- **التنقل والنزوح:** بعد قصف شقتها، تنقلت ابتسام بين منازل مختلفة بحثاً عن الأمان، وانتهى بها الأمر في جنوب قطاع غزة، حيث واجهت التنكيل والإهانات من جيش الاحتلال، وعانت من البرد والخوف على أطفالها.
- **التحديات المهنية والشخصية:** استمرت ابتسام في عملها كصحافية رغم المخاطر، بما في ذلك استهداف الصحافيين وصعوبة توفير الإنترنت، وعانت من فقدان أخيها واعتقال والدها، مما أثر على حالتها النفسية.
ما أصعب أن تسعي لضبط إيقاع حياتك المهنية وحياتك الشخصية في هذه الحرب. أن تكوني صحافية، وتكوني أمّاً في نفس الوقت، وتحافظي على الاثنين. كلّ هذا في زمن الحرب وفي وقت النزوح المرير. ثمّة حكايات كثيرة وقصص عديدة عن هذه الأمومة وتلك الصحافة.
مرضتْ ابنتي وأصابها الإعياء الشديد لدرجة فقدانها نصف وزنها، أخبرنا الطبيب أنها تعاني من جرثومة، وتحتاج لتناول أطعمة حلوة. توجهت للسوق للبحث عن حلويات يمكن أن أشتريها لابنتي لتحسين وضعها الصحي، ولكن لم أجد شيئاً يمكنها أن تتناوله، وكل ما وجدته من حلويات في بعض أركان السوق كان سعره مرتفعاً جداً.
هذا حالنا في غزة نفتقد أقل الامكانيات من حيث الأساسيات وهي مكونات الطعام من خضار وفواكه ولحوم، خلال الستة شهور الأولى من الحرب التي تشنها إسرائيل على قطاع غزة. أنا ابتسام مهدي صحافية من مدينة غزّة لاجئة بعد عدّة تنقلات من مدينة دير البلح، أم لطفلة عمرها تسع سنوات وطفل عمره سبع سنوات.
ما يتوفر في الأسواق هو المعلّبات التي تحتوي على نسبة كبيرة من المواد الحافظة الضارة، لا يوجد خضار وإذا وجدت فالأسعار مرتفعة جداً، ولا تستطيع العائلات شراءها.
لا يوجد لدينا مياه نظيفة لتناولها وهي مشكلة أخرى بالإضافة لمشكلة توفير مياه للاستخدام اليومي
بعد بحثٍ في السوق، قررتُ أن أعود إلى المنزل لأتناول أنا وأطفالي وزوجي علبة "تونا"، ولكن حتى من أجل تناول "التونا" بشكل معقول فنحن بحاجة لليمون. اشتريتُ ليمونة واحدة بما يعادل دولارين، سألتني طفلتي ماذا جلبتِ لي من طعام حلو، ابتسمت في وجهها وقلت لها اشتريت لك كيكة. وكنت فعلاً قد اشتريت قطعة كيكة صغيرة جداً، لكن رغم صغرها كان سعرها قرابة أربعة دولارات. قسمتها بين أطفالي: ابنتي وابني، وجلستُ في حيرة من أمري ماذا يمكن أن أعد لها طعاماً حلو المذاق، لا سيما أن كيلو السكر سعره يزيد عن المائة شيكل، وهذا سعر أيضاً مرتفع وخرافي مقارنة بسعره الأصلي قبل الحرب، كما أن تجهيز أي نوع من الحلوى بحاجة لتوفير الحليب، لا يوجد لدي ملعقة حليب واحدة؛ فهو مقطوع من السوق مثل الكثير من السلع الأساسية.
وفيما كنا نتناول علبة "التونا" التي حصلت عليها عبر طرد غذائي يحتوي على بعض المعلبات من فول وحمص وفاصولياء وبازلاء، سألتني طفلتي متي يمكنك أن تشتري لنا دجاجاً، أيضاً ابتسمت في وجهها ووعدتها بالمحاولة في أقرب فرصة إذا توفر في السوق. وأيضاً هذا أمر بات شبه مستحيل.
مررتُ بتجارب كثيرة خلال تلك الفترة، لم تقف عند توفير الطعام، فلا غاز ولا كهرباء، إذ صرتُ مثل الآخرين نعتمد على الحطب في إعداد الطعام حتى خلال تسخين المعلبات، كذلك لا يوجد لدينا مياه نظيفة لتناولها وهي مشكلة أخرى بالإضافة لمشكلة توفير مياه للاستخدام اليومي.
ومن تلك اللحظات المريرة، كانت لحظة استشهاد أخي بعد استهداف منزله واعتقال والدي لأكثر من شهر
سأذكر بعضاً مما مررتُ به وهي آخر تجربة قبل لجوئي لمدينة دير البلح، بعد قصف شقتي في منطقة تل الهوا جنوب غرب مدينة غزّة حيث انتقلت لعدة منازل في المدينة بحثاً عن الأمان، ولكن في كل منزل كان يحدث هناك استهداف للمنطقة التي يقع فيها المنزل ويحدث به أضراراً متفاوتة، لأقرر في نهاية المطاف بعد ذلك النزوح لجنوب قطاع غزة.
كانت تلك رحلة مليئة بالمواقف الصعبة حيث تنقلت من منزل إلى منزل، حتى أنني اضطررت مرة للمبيت في المستشفى، إذ نمت أنا وأطفالي على بطانية واحدة ووضعنا فوقنا نحن الثلاثة بطانية ثانية. كانت تلك أول مرة أشعر فيها بالبرد الشديد الذي تسبب في نزول دموعي من شدته ومن خوفي على أطفالي.
لم أستقر خلال الفترة الماضية بالمطلق لأنتقل بعد اجتياح مدينة خانيونس جنوب قطاع غزة عبر ما يعرف بـ"الممر الأمن" الذي وضعه جيش الاحتلال، حيث مررت بتجربة صعبة خلال ذلك، كانت عبارة عن تنكيل وإهانات ومسبات وإذلال، إلى أن وصلت في مرحلة نزوحي الأولى نحو الجنوب إلى وسط القطاع، وجلستُ في مدينة دير البلح أكمل فيها مرارة اللجوء دون معرفة وقت الرحيل منها وإلى أين.
خلال تلك الفترة عملت في مجال الصحافة وهي مهنتي الأساسية، ولكن كان عملي لأول مرة محفوفاً بالمخاطر التي يمكن تلمسها في مجال مهنتنا بعدد الزملاء الذين ارتقوا شهداء في الأشهر الأخيرة. حتى وصل الأمر لطردنا من منازل أصدقاء كوننا صحافيين.
نسيتُ أن أقول إن زوجي أيضاً صحافي. لم يكن مرحّباً بنا خاصة بعد أن صار الجيش يتعمد استهداف الصحافيين من أجل إخافتنا ومنعنا من ممارسة مهنتنا. ناهيك عن الصعوبات الجمة التي نواجهها خلال عمليات التغطية والتي منها مثلاً صعوبة توفير الإنترنت، وصعوبة التنقل لإجراء المقابلات، وعدم توفر خطوط الاتصال التي توفر بديلاً لذلك، أيضاَ لم يكم سهلاً أن تقنع المواطنين بالتحدث إليك في الكثير من المواقف، بجانب أن المسؤولين خاصة لم يكونوا متوفرين بسبب الخوف من الاستهداف، لذلك لم يكن ثمة مسؤولون يدلون بتصريحات ويعبرون عن مواقف فهناك استهداف لكل شيء. كذلك صعوبة توفير شحن للجولات، ناهيك عن كوني أماً وزوجة وعليها متطلبات زادت وتنوعت خلال هذه الحرب.
ومن تلك اللحظات المريرة التي عشتها خلال الأشهر الماضية، كانت لحظة استشهاد أخي بعد استهداف منزله وسيارته واعتقال والدي لأكثر من شهر. كانت تلك تجربة مريرة خبرتها كما خبرها الآخرون مثلي في غزة. هذه الأمور فطرت قلبي، وغيرت في شخصيتي وحالتي النفسية كثيراً، أصبحت أميل للصمت، وعانيت من عدم القدرة على إنجاز مهامي الصحافية، فمهما كتبنا يظل قلمنا عاجزاً عن التعبير عن حقيقة ما يجري أمام حجم الدمار والاستهداف والخوف الذي نعيشه، ناهيك عن التزامات الحرب التي تنوعت وتغيرت في كل لجوء وغيرت منا الكثير، استنزفنا مالياً ونفسياً وجسدياً حتى أصبحنا أجساداً باهتة ترزح تحت أرواحنا الثقيلة، نتنهد مرارة كل يوم بعدة أشكال.
* صحافية وكاتبة من غزّة