الحرب والثعبان

05 سبتمبر 2024
عمل للفنان الفلسطيني فلاديمير تماري
+ الخط -

هي المرّة الأولى التي أمسك فيها ثعباناً، حدث هذا معي بالقرب من خيمة النزوح في أقصى جنوب مدينة خانيونس، إذ كنت أجلس تحت شجرة زيتونٍ عجوز شبه صفراء في "المواصي"، حين برز هذا الزاحف فاندفعت إليه بدون تفكير لأمسك بيدي اليمنى عنقه وبيدي اليسرى قبضت على جسده الطويل نسبياً لأدسّه في زجاجة بلاستيكية شفافة بحذر...

كان يجلس معي يومها الشاعر الشاب هاشم عبد الكريم الذي بهت من تصرّفي ببرود وهدوء خلال الموقف، لكنه سرعان ما عقَّب على الأمر بتأكيده أن الحرب جعلت منا كيانات مفاجئة، من الطبيعي بموجبها أن نمسك بالنيران حتى، من دون أن نصرخ من سطوة لهبها.

لم أخبر هاشم حينها أنني هرعت في داخلي لنوبة استغراق عارمة، قوامها أنني أنظر لنفسي والكلّ في هذه الحرب كفريسة سهلة لهذا الثعبان وأشباهه، وأنني إن كنت قد أفلحت في تصرفي الدفاعي الغريزي تجاه هذا الغازي اللعين؛ فإن غزاةً كثراً ومتوالين علينا لدغونا وقتلونا من مختلف الجهات؛ بينما لا نملك إلا الموت والصراخ...

■ ■ ■

منذ بداية هذه الحرب ابتلينا بأفاعٍ طائرة، لديها في كلّ بخة سمّ قدرة على الفتك بمئات الضحايا دفعة واحدة، وأخرى تنال من جماداتنا طرقاً ومنازل ومباني خدمات وبيوت عبادة ومستشفيات، وأخرى لم نكن لنشاهدها وهي تجثم على أرواحنا من الداخل، وتذيقنا كل سموم اليأس والإحباط والكآبة والانسحاق في مواجهة ذلك كله، بينما لا نستطيع نحن ولا غيرنا في هذا العالم إمساك أي منها ووضعه في زجاجة بلاستيكية أو غيرها.

ابتلينا بإنعدام الترياق إزاء توالي اللدغات، وصرنا نتبادل وصفات بدائية للبقاء على قيد الحياة

وفي بداية هذه الحرب ووسطها ونهايتها غير المعلومة حتى اللحظة، ابتلينا بانعدام الترياق إزاء توالي اللدغات، وصرنا نتبادل وصفات بدائية للبقاء على قيد الحياة من دون أن نبتعد عن مؤشر استمرار النبض في أجسادنا المطفأة، والعالم كله يتصرف حيالنا كأنه يشاهد سيركاً أو مهرجاناً للحواة.

■ ■ ■

سألني هاشم عما أنوي فعله بالزاحف المحبوس في الزجاجة، قلت له: "إنني لا أعرف، لكننا على الأقل الآن في أمان، أنا وأنت وسكان خيمتي من أهل بيتي والخيام المجاورة، إن حجزه في هذه الزجاجة خطوة جيدة، وليتنا يا هاشم أوتينا عصا موسى لنلقيها في غزة فتلقف ما يأفكون. قال هاشم وهو شاخص :"يا إلهي يا عم، إن سموتيرتش وبن غفير، ينحدرون من معتقدات تراثية وبعض تخاريف، يظنون بموجبها أنهم من أتباع النبي موسى - عليه السلام - وبالتالي يعتقدون أن عصاه لهم وهم أولى بمنافعها"، انتبهت فعلاً إلى ما قاله هاشم ودقّة المفارقة التي أشار لها، واستشعرت قسوة وحمق وسخرية أن يؤسّس المعتدي وعيه على نرجسية اعتقادية مجنونة كهذه، رأينا تجلياتها وترجماتها القاتلة، وهي تذهب بنا مئات تلو مئات من الضحايا بدون أن يخجل القاتل أو يُحرج أو يخاف، خلال ثمانية أشهر قتلوا منا قرابة خمسين ألفاً أو يزيدون.

■ ■ ■

أحضر ابني محمد جده أبو عبد الدايم الذي يعيش في "المواصي" وولد فيها، فأكّد لنا حين رأى الثعبان أنه ينحدر من نوعٍ سام وخطير، مبدياً دهشته من قدرتي على الإمساك به بطريقة خبير، واستأذنني في أخذه وقتله، لكن هاشم اقترح -اقتراح شاعر- أن نطلق سراحه في مكان بعيد بدون أن نقتله، بينما طلب صغيري كنان أن نحتفظ به وأن أسمح له بأخذه للمباهاة به محبوساً في زجاجة البلاستيك أمام أطفال المنطقة والعالم، وتحت إلحاحه وضغطه الطفوليين أعطيته الزجاجة فعلاً وحذرته من فتحها، وصار كنان يتنقل ويتجوّل به أمام الأطفال وهم يبدون دهشتهم واستغرابهم وردات فعلهم الاحتفالية المتشفية بثعبانٍ في زجاجة، لكن بعد مرور يومين أقنع الجد حفيده بوجوب قتل هذا السام، وبالفعل قتل أبو عبد الدايم الثعبان بضربة على رأسه، وحينها كنت أصلي ركعتي سُنّة صلاة الظهر، فسلَّمْتُ ونظرت للثعبان المقتول، ثم حملقت في السماء ودعوتها بصيغة السؤال "إلهي، متى تُحْبَسُ أفاعي الجو والأرض المنشورة فوقنا وحولنا؟! ومتى تُحَاكَم؟! ومتى تُعدم؟!"...

منطق المافيا التي قد تقتل قاضياً لأنه حكم على أحد عناصرها بأنه مجرم ويستحقّ الإعدام

تذكَّرتُ على الفور أن محكمة لاهاي أصدرت لوائح اتهام ضد قادة الحرب في دولة الاحتلال، يتمّ بموجبها القبض عليهم وحبسهم في زجاجة، ثم تذكرت أيضاً أن واشنطن أقرَّت عقوبات على محكمة لاهاي لأنها فعلت ذلك، نحن البشر مضحكون مثيرون للشفقة؛ إننا نعاقب المحكمة، هذا غير مستغرب على منطق المافيا التي قد تقتل قاضياً لأنه حكم على أحد عناصرها بأنه مجرم ويستحقّ الإعدام، لذلك لا أمل لدينا كفلسطينيين بعدالة العالم؛ رغم مفاجآته الإيجابية في هذا السياق أحياناً.

■ ■ ■

على ذات سجادة صلاة الظهر، انتبهتُ تارة أخرى إلى السماء، ومن جديد نظرت لجثمان الأفعى القتيل، وقلت للسماء "ليس سواك؛ قادر على حبس المعتدين علينا في زجاجة"...
ثم قمت وذهبت لأواصل جلوسي تحت شجرة الزيتون العجوز شبه الصفراء آملاً أن أستريح بظلها في ذروة حرارة شمس الحرب والظهيرة العابسة.

■ ■ ■

باغتني صوت "حسين" صاحب الأرض التي خيمنا فيها قائلاً: "شجرة الزيتون عندك تحتاج إلى زبل وماء لتخضرَّ من جديد، رغم أنها عجوز شبه صفراء؛ إلا أنه يمكن إنقاذها"، قلت له: "حسناً، ولكن خلال سقيها وتسميدها علينا أن نحذر من أفاعٍ كهذا الممدّد بالقرب مني"... هزّ الرجل رأسه بالموافقة ومضى.


* شاعر من غزّة

نصوص
التحديثات الحية
المساهمون