وكأن الاقتصاد العالمي كان ينقصه بعض الإثارة، رغم اشتعال النزاعات التجارية بين الولايات المتحدة وشركائها التجاريين، وامتداد آثارها بالفعل إلى كثيرٍ من الدول الأخرى، ناشئة ونامية، في الشرق الأوسط وجنوب شرق آسيا وأميركا اللاتينية، بفعل تعقد سلاسل التوريد، ورغم احتدام الصراع التكنولوجي بين الولايات المتحدة والصين، وبين الولايات المتحدة وروسيا، ورغم تصاعد أزمة الأسواق الناشئة مع ارتفاع معدل الفائدة على الدولار وتزايد مديونياتها، وما تسبب فيه من تدهور مفزع في قيم عملات العديد منها، ثم أخيراً ارتفاع أسعار الطاقة، الذي يزيد من الصعوبات التي تواجهها البلدان المستوردة.
كأن كل تلك الإثارة لم تكن كافية، حتى تأتي مأساة قتل الكاتب الصحافي جمال خاشقجي، لتسكب المزيد من البنزين على النيران المشتعلة في الاقتصاد العالمي، وبصفة خاصة الاقتصاد السعودي.
وعلى عكس ما توقع كثير من المراقبين، لم تكن المشكلة في انخفاض أسعار الأسهم بالبورصة السعودية، على كبره وعظيم دلالته، وهو ما دعا الحكومة السعودية إلى استخدام الصناديق المملوكة لها للتدخل لإنقاذ الأسواق المالية.
ويمكننا القول بدرجة عالية من الثقة إنه لولا هذا التدخل لشهدنا نزيفاً كبيراً، خاصة مع ارتفاع نسبة المضاربات وعمليات الشراء بالهامش في السوق السعودية إلى أحد أعلى مستوياتها بين بورصات العالم.
أيضاً، لم يشهد سعر الريال السعودي انخفاضاً يذكر، وكل ما حدث أن الدولار وصل إلى 3.7525 ريالات تقريباً، مقارنةً بنطاق تداول معتاد بين سعري 3.7495 – 3.7505 ريالات، وهو ما يعني أن الدولار ارتفع أمام الريال بنسبة نصف بالألف فقط! وهي بالتأكيد نسبة هامشية لا تكاد تذكر في سوق تبديل العملات الأجنبية، وتمثل أقل من ربع ارتفاع الدولار أمام الريال أوائل عام 2015، حين انخفضت أسعار النفط عالمياً.
ولا ننسى هنا أن مؤسسة النقد العربي السعودي (البنك المركزي السعودي)، تتبع نظام سعر الصرف الثابت، ولديها من الاحتياطيات الأجنبية ما تزيد قيمته عن 500 مليار دولار، بالإضافة إلى صادرات النفط اليومية، الأمر الذي يمكنها من تثبيت سعر عملتها لشهور، وربما لسنوات، قادمة!
لكن البداية الحقيقية لأزمات المملكة كانت في الإلغاءات التي توالت ممن أكدوا من قبل حضورهم مؤتمر الاستثمار بالرياض، خاصة بعد الاعتراف بمقتل خاشقجي.
ورغم المقاطعة الدولية الجماعية، استقر رأي محمد بن سلمان على المضي قدماً في عقد المؤتمر في موعده، أمس الثلاثاء، بحضور بعض من لم يكونوا مستهدفين من فقراء العرب والآسيويين والأفارقة من مؤيدي المملكة، حفاظاً على المظهر العام، إلا أن التأثير المباشر لجريمة الاغتيال سيكون فقدان الاقتصاد السعودي لمليارات الدولارات التي كانت تستعد لدخول "السعودية الجديدة" التي وعدهم بها ولي العهد الشاب.
هذه النتيجة الطبيعية التي ترتبت على جريمة القتل إنما تعني بوضوح أن كل الجهود التي بذلتها المملكة طوال السنوات الماضية، من أجل إقناع العالم بأن السعودية ستكون واحة الاستثمار العالمي في الفترة القادمة، قد ذهبت أدراج الرياح.
ويترتب على ذلك أن المملكة ينبغي عليها الآن العمل على توفير التمويل المطلوب لرؤية 2030، من أجل تنويع الاقتصاد وخلق فرص استثمار وعمل خارج القطاع النفطي، من مواردها الذاتية، وهو أمر شديد الصعوبة، خاصةً مع تصور الالتزامات المالية التي سيتعين عليها تحملها خلال الفترة القادمة، كنتيجة لتلك الجريمة البشعة.
وفي معظم الأحيان تترجم الأسواق المالية كل العوامل المؤثرة إلى أرقام وأموال، وهو ما يعني أن ضياع تلك الاستثمارات على المملكة سيتم ترجمته إلى ارتفاع في كلفة اقتراضهم من السوق العالمي، وصعوبة في الحصول على قروض، وارتفاع كلفة التأمين على قروضهم كنتيجة لارتفاع عامل المخاطرة السياسية، التي كان ينظر إليها من قبل على أنها معدومة في "مملكة آل سعود"، وقد نشهد انخفاضاً في احتياطيات النقد الأجنبي التي يمتلكونها على المدى الطويل، وربما تأخيراً أو إلغاء لبعض المشروعات بسبب عدم توفر السيولة المطلوبة.
أما المعضلة الكبرى، فستكون الثمن الذي سيتعين على المملكة دفعه، من أجل الخروج من تلك الأزمة الناجمة عن اغتيال خاشقجي، والعودة إلى المجتمع الدولي، بعدما تزايدت عزلتها بصورة كبيرة في الأيام القليلة الماضية.
ومن المتوقع أن يرتفع الثمن الاقتصادي الذي ستدفعه المملكة إذا انخفض الثمن السياسي، والعكس صحيح. فلو زادت الضغوط على المملكة، وأُجبرت على تحمل ثمن سياسي كبير، مثل إبعاد ولي العهد عن السلطة ومنعه من الجلوس على كرسي المُلك، فسيكون الثمن الاقتصادي قليلاً.
أما في حالة إصرار الملك على حماية ابنه، المتهم الأول في نظر الملايين من مشارق الأرض إلى مغاربها، والاكتفاء بتقديم أكباش الفداء، فمن المؤكد أن الدول الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة، لن تفوت الفرصة الذهبية لحلب البقرة السعودية والحصول على مليارات الدولارات، وربما إجبارها على ضخ المزيد من النفط لتعويض نقص الإمدادات الإيرانية على حساب بنيتها التحتية النفطية، للتغاضي عن إبعاد الابن المدلل عن الحكم.
كل الإشارات، حتى مساء الأحد، تقول إن الغرب يميل إلى الحصول على الثمن الاقتصادي الفوري، حيث إن الثمن السياسي يمكن تحقيقه بالتدريج. وشخصياً أعتقد أن تعالي الأصوات في الكونغرس الأميركي، وبعض العواصم الأوروبية، بالمطالبة بمحاسبة بن سلمان ما هو إلا تقسيم أدوار من أجل الوصول بفاتورة التسوية إلى أعلى ما يمكن.
لكن الجهة الوحيدة التي يمكن لها تغيير مجرى الأحداث هي تركيا، والتي يشاء القدر أن يضعها في هذا الموقف وهي في واحدة من أحلك لحظات تاريخها الاقتصادي، فيكون الاختيار بين إظهار الحقيقة كاملة، كما كشفتها التحقيقات، أو طمس أغلبها والحصول على بضعة مليارات تساهم في تعزيز الانتعاشة التي حدثت أخيراً في قيمة العملة المحلية، الليرة، في الطريق للخروج من الأزمة وإنقاذ الاقتصاد. فماذا يفعل أردوغان؟!