فجأة، شعرت الطالبة الإيرانية رها بضيق في الصدر والتنفس، ثم بدأت دقات قلبها تتسارع بعد استنشاق رائحة غريبة. سألت زميلتها في الصف، كيميا، عما إذا كانت تشعر بالأمر نفسه. وبدأت تشعر بالقلق من أن يصيبها وزميلاتها ما حلّ بمدارس أخرى. تقول والدة رها، وهي معلمة في مدرسة غربي طهران، لـ "العربي الجديد"، إن كيميا كانت ترد على سؤال ابنتها بأسلوب فكاهي: "يعني سمّمونا؟ هل تريدين إخافتي يا رها؟". ثم بدأت بعض التلميذات السعال والشعور بضيق في التنفس وغير ذلك، ليعم الذعر داخل الصفوف في المدرسة، فخرجت جميع التلميذات إلى الفناء، بحسب ما نقلت والدة رها عن ابنتها.
تضيف الأم أن المدرسة قريبة من البيت. وبعد سماع أصوات سيارات الإسعاف، ألقت نظرة من شباك البيت فرأت أنها تتجه إلى شارع المدرسة، مشيرة إلى أنني "أشعر بالخوف ما دفعني إلى النزول من المبنى والتوجه إلى مدخل الزقاق، فوجدت سيارتي إسعاف أمام المدرسة وهرعت إليها". وتشرح أن بعض التلميذات نقلن إلى المستشفى، فيما عادت أخريات إلى البيوت.
وعن أعراض التسمم لدى ابنتها وزميلاتها، تقول: "كانت الأعراض متفاوتة ومختلفة. لم تعان ابنتي إلا من ضيق في التنفس والدوار، فيما شعرت أخريات بالغثيان وفقدن الإحساس بأقدامهن".
بداية التسمّم
بدأ مسلسل التسمم في مدارس الفتيات الإيرانية في 30 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي. وظهرت أولى الحالات في ثانوية نور يزدان بمدينة قم الدينية (شمال البلاد)، على بعد 110 كيلومترات من طهران. وتعرضت 18 تلميذة للتسمم. رويداً رويداً، شهدت مدارس أخرى في قم حالات تسمّم، ثم وصلت الحالات إلى 26 محافظة من أصل 31.
في السياق، يقول عضو لجنة التحقيق البرلمانية، محمد حسن آصفري، إن خمسة آلاف تلميذ إيراني في 230 مدرسة تعرضوا للتسمم حتى السادس من مارس/ آذار الجاري. وأشارت الداخلية الإيرانية في بيانها الصادر يوم الإثنين الماضي، إلى أن تلميذات في 250 صفا بالمدارس الإيرانية أعربن عن وجود "أعراض والشعور بالاضطراب"، متجنبة استخدام كلمة التسمّم. وسجلت عدة حالات تسمم في مدارس البنين، لكن الغالبية المطلقة كانت في مدارس الفتيات، وخصوصاً الثانويات. وقبل أيام، أفادت وسائل إعلام إيرانية بوجود حالات تسمم لدى تلميذات في جامعات إيرانية.
ويبلغ عدد التلاميذ الإيرانيين نحو 16 مليونا، وتشكل التلميذات أكثر من 49 في المائة منهم، فضلاً عن أن عدد المعلمات أكثر من المعلمين، فهن يشكلن 53 في المائة من العدد الإجمالي للمعلمين الإيرانيين البالغ مليون شخص.
غاز متطاير
وحول طبيعة التسمم والمواد التي تؤدي إلى ذلك في المدارس الإيرانية، يقول الطبيب الإيراني ورئيس مستشفى "إبن سينا" في طهران أرش أنيسيان، لـ "العربي الجديد": "لا معلومات كافية بشأن طبيعة تسمم الطلاب ونوع الغاز الذي يتسبب به"، مضيفاً أن "ما وصلنا إليه حتى الآن هو أن الغاز المستخدم متطاير وله مضاعفات تنفسية محدودة جداً". يتابع: "هذا الغاز الذي لم يعرف بعد نوعه، ليس خطيراً. وحتى الآن، لم تسجل اضطرابات دم أو اضطرابات أيضية"، موضحاً أن ما سبق شكل قناعة بأن الغاز متطاير لكن ذلك لا يعني أن نسبة السم فيه قليلة، أو أنه لا يسبب مضاعفات جادة في حال ارتفعت نسبة السم فيه".
استقبلت مستشفى إبن سينا 15 تلميذة مصابة بالتسمّم، من دون أن تتطلب حالتهن البقاء فيها، بحسب أنيسيان. يضيف أن أعراضهن كانت متنوعة، منها حرقة في الأنف والحلق والعطس والكحة والغثيان وفقدان الإحساس ببعض الأعضاء والدوار. ويشير إلى أن الأعراض "لم تكن حادة". إلا أن بعض اللواتي كن يعانين من أمراض سابقة "كان وضعهن الصحي أسوأ من غيرهن، والكحة أشد، وضاعف التسمم من أعراض الربو". ويستبعد أنيسيان في حديثه لـ "العربي الجديد" حصول مضاعفات على فترة طويلة مثل العقم، قائلاً إنه "ليس للغازات المتطايرة مضاعفات أيضية". ويرى أن القلق والرعب المنتشر بين الأسر يفوقان المضاعفات الجسدية والسريرية.
ويؤكد أول تقرير للجنة العلمية المختصة المعنية بوزارة الصحة الإيرانية، والصادر يوم الإثنين الماضي، أن بعض التلميذات اللواتي نقلن إلى المستشفيات تسممن "بمادة استنشاقية مهيجة تشبه الغاز" من دون تحديد طبيعة المادة، مضيفاً: "يمكن أن تكون على شكل صلب أو مسحوق أو عجين تبخرت بعد وضعها على أجهزة التدفئة بالمدارس". وسبق التقرير إعلان وزير الصحة الإيراني بهرام عبدالهي، الأسبوع الماضي، أن التحقيقات أظهرت أن "سماً خفيفاً جداً" تسبب بحالات التسمم بين التلميذات.
وجاء في بيان الداخلية الإيرانية يوم الثلاثاء الماضي، أنه "حتى الآن لم يعثر على مواد سامة وخطيرة في أجساد التلاميذ الذين راجعوا المصحات"، مشيرة إلى أن التحاليل أظهرت "وجود مواد مهيجة في أجسام أقل من خمسة في المائة من المراجعين"، عازية ما أصاب 90 في المائة من الحالات إلى توترات نفسية وقلق.
مماطلة حكومية
خلال الأشهر الثلاثة الماضية التي شهدت ظهور أول حالة تسمم وتكرارها في مدن إيرانية أخرى، لم تتعامل السلطات الإيرانية المعنية بشكل جاد مع الأمر، ما عرّضها لانتقادات شديدة بالتوازي مع تحول التسمم إلى قضية رأي عام مدفوعة بقلق وغضب في المجتمع.
وما زاد القلق والانتقادات هو اتساع رقعة حوادث التسمم جغرافياً، وارتفاع الحالات خلال الأسبوعين الأخيرين، وسط غموض مستمر وتساؤلات ملحة وروايات متناقضة بشأن طبيعة التسمم وأسبابها والجهات التي تقف خلفها من دون تفسير أو موقف رسمي واضح.
لكن منذ حوالي أسبوع، شهد التعاطي الحكومي مع حوادث التسمم تغييراً ملحوظاً، مدفوعاً بعدة عوامل، منها الزيادة المطردة في حالات التسمم خلال الفترة الأخيرة، وانتشار حالة من الذعر والقلق بين الأسر، وسط دعوات إلى تعطيل المدارس. أمر أثار تكهنات ومخاوف لدى السلطات من احتمال أن يشعل الأمر موجة احتجاجات أخرى في البلاد، في ظل تركيز المعارضة الإيرانية في الخارج على الأمر وحديثها عن "الهجوم الكيماوي" على المدارس وربطه بالاحتجاجات الأخيرة. في هذا الإطار، انتشرت دعوات للتظاهر على شبكات التواصل الاجتماعي ووسائل إعلام معارضة.
كما تدخل المرشد الإيراني الأعلى علي خامنئي، الإثنين الماضي، داعياً السلطات إلى متابعة الموضوع بـ "جدية"، معتبراً أن الأمر "جريمة لا تغتفر". أضاف: "إذا ما ثبت تسمم التلاميذ، يجب إنزال أشد العقوبات بحق مرتكبي هذه الجريمة"، محذراً من الإخلال بالأمن النفسي المجتمعي وإثارة القلاقل للأسر.
وبأمر من الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي، تشكلت لجنة حكومية لبحث قضية التسمم، ضمت وزارات التربية والتعليم، والصحة والتعليم الطبي، والداخلية تحت إشراف وزير الداخلية أحمد وحيدي، كما يقول عضو لجنة الأمن القومي والسياسة الخارجية في البرلمان حسين نوش أبادي لـ "العربي الجديد". يضيف أن اللجنة تدرس ما إذا كان للتسمم "منشأ داخلي أو خارجي أو نفسي"، مع القول إن "أبعاد القضية غير واضحة بعد وهي تحتاج إلى تدقيق أكثر".
واتخذ تسمم التلميذات أبعاداً وانتقادات دولية، إذ أعربت الأمم المتحدة ودول غربية، في مقدمتها الولايات المتحدة، عن قلقها إزاء التقارير عن انتشار التسمم بين التلميذات الإيرانيات وسط اتهامات غربية للحكومة الإيرانية التي رفضتها. ودعت الأمم المتحدة إلى "تحقيق شفاف"، كما حذرت منظمة الأمم المتحدة للطفولة "اليونسيف" من تداعيات التسمم على تعليم الفتيات.
غموض مستمر
بعد مرور أكثر من ثلاثة أشهر، ما زال الغموض سيد الموقف في ما يتعلق بطريقة التسميم والمادة أو المواد المستخدمة فيه أو الجهات التي تقف خلفه. وباتت السلطات تتعامل مع الملف على أنه "أمني" يستهدف البلاد، انطلاقاً من اتهامات لـ "أعداء" إيران بالسعي لـ "إثارة البلوى" في البلاد بحسب رئيسي. في المقابل، تتهم المعارضة وناشطون على شبكات التواصل الاجتماعي السلطات بـ "تدبير هذه الحوادث انتقاماً من التلميذات" اللواتي شاركن في الاحتجاجات على وفاة الشابة مهسا أميني خلال سبتمبر/ أيلول الماضي، بعد أيام من احتجازها من قبل شرطة الآداب بتهمة عدم وضع الحجاب المناسب.
ويقول المتحدث باسم لجنة الأمن القومي والسياسة الخارجية البرلمانية، أبو الفضل عمويي، لـ"العربي الجديد": "لا يوجد حتى الآن فرضية قطعية بشأن وقوع حوادث التسمم". ويرى أن "إثارة هذا الموضوع لها دوافع معادية لأمن إيران"، متهماً مجموعات لم يسمها بالسعي لـ "إثارة القلاقل في المجتمع والأسر". كما يشير إلى تشكيل لجنة في البرلمان من أربع لجان برلمانية لمناقشة الأمر.
ثمة تكهنات وآراء أخرى تنسب تسمم التلميذات الإيرانيات إلى جماعات دينية متطرفة تعارض دراستهن. ونقلت صحيفة "شرق" الإيرانية في 26 فبراير/ شباط الماضي عن رجل الدين الإصلاحي فاضل ميبدي، قوله إنه سمع بأن مجموعة دينية متطرفة مقرها قم وأصفهان، تقف خلف تسميم التلميذات.
ولا يستبعد عضو لجنة التعليم البرلمانية محمد رضا أحمدي، في حديثه لـ "العربي الجديد"، وقوف مجموعات داخلية وراء حوادث التسمم، قائلاً: "ربّما مجموعة أشخاص يكونون قد خدعوا، لهم دور، كما حصل خلال أعمال الشغب" في إشارة إلى الاحتجاجات الأخيرة. إلا أن أحمدي يصوّب على من وصفهم بأنهم "أعداء" إيران، مضيفاً أنهم "بصدد تعطيل التعليم والتقدم في البلاد".
وما إذا كانت السلطات الإيرانية ستقوم بتعليق الدراسة في المدارس، يقول إن "هذا ما يريده أعداؤنا ونحن لن نعطل التعليم"، نافياً صحة ما ذكرته بعض وسائل الإعلام عن وفاة عدد من التلميذات.
إلى ذلك، ثمة آراء محافظة تنفي وجود التسمم من الأساس، وتعزوه إلى "المشاغبة والاضطراب والتوتر" لدى التلميذات. وفي السياق، يقلل النائب البرلماني حسن نوروزي، في حديثه لـ "العربي الجديد"، من أهمية حوادث التسمم، مرجعاً إياها إلى "أحاسيس كاذبة" لدى بعض التلميذات. يضيف: "كانت هناك حالتا تسمم حقيقي في ربوع إيران بسبب العصير الملوث والطعام الفاسد".
وكان مساعد وزير الداخلية الإيراني للشؤون الأمنية، مجيد مير أحمدي، قد أدلى بتصريحات للتلفزيون الإيراني أثارت انتقادات، إذ قال إن بعض التلميذات "مزحن مع زملائهن باستخدام مواد تباع في السوق من دون وعي".
في غضون ذلك، وصفت وسائل إعلام وصحف إيرانية، منها صحيفة "هم ميهن" الإصلاحية، حوادث التسمم بأنها "إرهاب بيولوجي"، وهو ما عرّضها لانتقادات محافظة.
تجمعات واعتقالات
في ظل الغضب الكبير والدعوات إلى التظاهر والإضراب، نظمت عائلات إيرانية، السبت الماضي، تجمعات أمام بعض المدارس، فضلاً عن أخرى احتجاجية لمدرسين إيرانيين في مدن عدة، للتضامن مع التلميذات الإيرانيات اللواتي تعرضن للتسمم، وفق فيديوهات متداولة على شبكات التواصل الاجتماعي الإيرانية. في غضون ذلك، أعلنت الداخلية الإيرانية اعتقال أشخاص في 6 محافظات إيرانية، بسبب "إعداد مواد مهيّجة ونشرها بين تلاميذ المدارس، ما أدى إلى ظهور أعراض بينهم"، مشيرة إلى أن أحد أعضاء المجموعات المكونة من أربعة أشخاص، كان قد نقل "المواد المهيجة" إلى المدرسة، من خلال ابنته لنشرها بين التلاميذ. وبعدما ساء الوضع الصحي لعدد من التلميذات، تم تصويرهن سريعاً داخل المدارس والمستشفيات، وإرسال الفيديوهات إلى "الإعلام المعادي في إطار سيناريو لبث الرعب والخوف بين الإيرانيين". في هذا الإطار، عمدت السلطات الإيرانية إلى التشدد مع وسائل الإعلام غير الرسمي في ما يتعلق بحوادث التسمم، انطلاقاً من اتهامات توجهها لبعض وسائل الإعلام ومشاهير في عالم الفن والإعلام والسياسة، من خلال السعي لإثارة "القلاقل" في المجتمع. جاء ذلك بعدما أصدر رئيس السلطة القضائية الإيرانية غلام حسين محسني إيجئي، الأسبوع الماضي، تعليمات لإنشاء فرع قضائي خاص بالمحافظات، يستدعي "مثيري الاضطرابات والأكاذيب بشأن قضية المتسمّمات".
عليه، وجه الادعاء العام بطهران اتهامات بـ "التشويش على الرأي العام ونشر الأكاذيب" إلى مسؤولي صحيفتي "هم ميهن" و"شرق" وموقع "رويداد 24"، فضلاً عن ممثلين وناشطين. في هذه الأثناء، أعلن الجهاز القضائي والشرطة عن اعتقال أفراد وصفوا بأنهم "مثيرو الشائعات" حول التسمم في محافظات عدة، منها كردستان وخراسان وفارس.