خطرٌ جديد يتهدّد الناشطين المقدسيّين وعائلاتهم، على خلفية مشاركتهم أو اتهامهم بالمشاركة في هبّة الكرامة الأخيرة، ما ينذر بعمليات ترحيل وتهجير قسري لعشرات العائلات، وقد أبلغت سلطات الاحتلال الإسرائيلي نحو خمسة عشر ناشطاً حتى الآن بقرارها إسقاط الحقوق الصحية والاجتماعية والاقتصادية لهؤلاء الناشطين وعائلاتهم، وهي خطوة سيليها فقدان هؤلاء حق الإقامة الدائمة في القدس المحتلة.
في هذا السياق، يصف مدير مركز القدس للحقوق الاجتماعية والاقتصادية (مؤسسة مقدسية تعنى برصد انتهاكات الاحتلال في القدس المحتلة) زياد الحموري، هذا التطور بالخطير جداً وإن كان متوقعاً. ويقول لـ "العربي الجديد" إنّ مثل هذا الإجراء كان قد بدأه الاحتلال قبل نحو خمسة عشر عاماً بحق الأسرى والمعتقلين المقدسيين، وقد برز لأول مرة في قضية الأسير شادي الشرفا، من حيّ وادي الجوز في المدينة المقدسة، إلاّ أنّ المركز وبعد توجهه إلى القضاء نجح بتجميد القرار في ذلك الوقت.
خدعة
يرى الحموري أنّ القرارات الجديدة عبارة عن ادعاءات غريبة وخادعة. فالأسير المحرر ناصر أبو خضير، على سبيل المثال، مقيم في القدس وفي بلدته شعفاط تحديداً، ولم يغادرها إلى الضفة الغربية أبداً. وكان قد اعتقل أكثر من مرة من منزله وأعيد إطلاق سراحه إلى منزله هناك، حتى أنّ الإقامة الجبرية التي فُرضت عليه مؤخراً كانت في بلدته.
ما حدث في قضية أبو خضير هو أنّه توجه مؤخراً للعلاج، لكنّه أبلغ من قبل العيادة التي يتلقى العلاج فيها أنّه فقد حقه في التأمين الصحي هو وعائلته، بذريعة أنّه ليس مواطناً (إسرائيلياً). وحين حاول الاستفسار من مؤسسة التأمين الوطني الإسرائيلية، اكتشف أنّهم بعثوا له تحذيراً بهذا الخصوص في الأول من مايو/أيار الماضي. وبعد يومين، اتخذوا قرارهم بإسقاط حقه في التأمين الصحي هو وعائلته، أي في الثالث من الشهر نفسه، من دون إبلاغه كتابياً أو إخطاره بأيّ طريقة.
يتابع الحموري: "في حال قرر أبو خضير التوجه للقضاء الإسرائيلي، يمكننا إبطال كلّ الادعاءات التي تذرّعوا بها وأهمها إقامته في الضفة الغربية. لكنّ المتوقع أن يُستبدل هذا الادعاء بآخر، وهو عدم الولاء لدولة الاحتلال، وهي تهمة وجهت لنواب القدس من حركة حماس الذين أبعدوا إلى الضفة الغربية وفقدوا حق الإقامة".
لا بد من التحرّك
يقول المحامي مدحت ديبة، وهو أحد المحامين الذين يتابعون قضايا المعتقلين المقدسيين في الهبّة الأخيرة، إنّ سحب التأمين الصحي والإقامة من المقدسيين مسألة قديمة ـ جديدة تلجأ إليها الحكومة الإسرائيلية ممثلة بوزير داخليتها المسؤول عن الإقامة المرتبطة بالتأمين الصحي وسائر الحقوق الاجتماعية والاقتصادية في كلّ أمر أمني يحدث في البلاد. ويشير إلى أنّه في الفترة الأخيرة، صدرت العديد من قرارات الاعتقال الإداري بحق الناشطين المقدسيين، بمن فيهم ناشطون شباب، ووصل عددها في غضون أيام عدة إلى 15 قراراً، وهو رقم كبير خلال فترة زمنية قصيرة.
ويقول ديبة لـ"العربي الجديد" إنّ جميع من تم إسقاط الحقوق الصحية عنهم مؤخراً لم يتلقوا أيّ بلاغ بهذا الخصوص، علماً أنّ هذا الإجراء غير قانوني ويهدف إلى حرمان هؤلاء من حقهم في الاستئناف خلال الفترة التي يحددها القانون (ما بين 30 و45 يوماً)، يلي ذلك التوجه إلى محكمة العمل للاعتراض على تلك القرارات.
في هذا السياق، يلفت إلى قيام مؤسسة التأمين الوطني بالتسجيل في السجلات الداخلية لوزارة الداخلية بخصوص من أسقطت عنهم حقوقهم في التأمين الصحي، وذلك من خلال إرسال هذه القرارات عبر البريد بواسطة أرقام وهمية وغير صحيحة. وعمد المحامون إلى دراسة هذه الأرقام ليتبين أنّها أرقام وهمية، وقد استخدمت للتحايل على القانون بهدف تفويت الفرصة على الضحايا ومنعهم من الاعتراض في فترة الاعتراضات المحددة بحسب القانون، وهي ما بين 30 و45 يوماً.
يؤكد ديبة على ضرورة التحرك السريع لإبطال تلك القرارات التي تنافي قواعد القانون الدولي الإنساني والذي يمنع سلطة الاحتلال من تغيير الوضع القائم للمواطنين المحتلين من قبل دولة الاحتلال.
يتابع ديبة أنّه يمكن التحرك من خلال الضغط على منظمات حقوق الإنسان الرافضة لهذه الإجراءات الظالمة، والتوجه أيضاً بشكوى للمحكمة الجنائية الدولية، علماً أنّ الإجراءات الأخيرة تؤسس لشكل آخر من أشكال الترحيل والتهجير القسري بعد أن تفقد تلك العائلات حقها في الإقامة.
يعتبر الأسير المقدسي المحرر ناصر أبو خضير، وهو من بلدة شعفاط الواقعة إلى الشمال من مدينة القدس، نموذجاً لما يجري، ومثالاً حياً لهذه الإجراءات الإسرائيلية التي شملت زوجته الأسيرة المحررة عبير أبو خضير، وابنتهما، بالإضافة إلى نجلهما الفتى عنان، الذي اعتقل بتهمة التعرض لمستوطن كان قد حضر إلى محيط منزل العائلة وبحوزته سكين هدد فيه أهالي الحي الذي تقطن فيه العائلة. أبو خضير (60 عاماً) أمضى سنوات طويلة في سجون الاحتلال، كان يعتقل من بيته في شعفاط بالقدس وحين يفرج عنه كان يعود إليه، وبالتالي هو مواطن أصلي في بلدته ومدينته لم يغادرهما أبداً إلى الضفة الغربية، وهي ذريعة سلطات الاحتلال لإسقاط حقوقه وحقوق عائلته الصحية والاجتماعية والاقتصادية بدعوى أنّه غير مقيم في القدس.
الموت فوق تراب القدس
كان أبو خضير على مدى العقود الماضية، وحتى لدى ترشحه لخوض الانتخابات العامة ضمن قائمة "نبض الشعب" التابعة للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، هدفاً لسلطات الاحتلال، فقد أمضى سنوات ما بين سجن وإطلاق سراح، وإبعاد عن الضفة الغربية ومنع دخولها، وتهديدات من قبل الاستخبارات الإسرائيلية تحذّره من خوض الانتخابات العامة ضمن قائمة الجبهة الشعبية.
عن القضية الراهنة، يقول أبو خضير: "قبل أكثر من أسبوع، أُبلغت لدى توجهي للعيادة الطبية بأنه تم قطع التأمين الصحي والوطني عني وعن زوجتي بحجة أنّني لا أسكن في القدس، وأنّني من سكان الضفة الغربية، وهذا يعني فقدان حق إقامتي في القدس، وهذه مقدمة لسحب هويتي المقدسية". يتابع أبو خضير: "مؤخراً، تسلمت قراراً بمنع دخول الضفة الغربية لمدة ستة أشهر. سبق ذلك قرار حرمني من دخول كلّ أحياء القدس باستثناء مكان سكني. منذ ولادتي قبل ستين عاماً، لم أغادر القدس إلاّ زائراً لمعتقلاتهم. ولدتُ في القدس وعاهدت نفسي ألّا أموت إلاّ بين أحضانها وفوق ترابها، ومرحى لكلّ ضريبة ولكلّ ثمن ندفعه بكلّ قناعة دفاعاً عن حقنا في الانغراس شوكة في حلق عدونا متمترسين في قدسنا وإلى الأبد".
مع ذلك، يدعو أبو خضير، إلى عدم الاستهانة أبداً بهذه الإجراءات الظالمة التي طاولت حتى الآن أكثر من 20 أسيراً محرراً وناشطاً مع عائلاتهم، وربما يصبح العدد خمسين وأكثر. وفي حال تحوّل ذلك إلى نهج وممارسة يومية، فهذا يعني أنّ القدس على موعد مع تزايد أعداد من فقدوا حق الإقامة وهجّروا قسرياً من مدينتهم المقدسة التي ولدوا فيها وهم أهل هذه المدينة الأصليون والشرعيون. ويطالب المؤسسات المعنية بحقوق الإنسان المحلية والدولية بسرعة التحرك ولجم الاحتلال عن ممارساته غير القانونية والتي تنتهك حقوق المقدسيين كافة.
إسقاط حق الإقامة
تعدّ الإجراءات الجديدة بحق هؤلاء الأسرى والناشطين الأكثر خطورة وتأثيراً على المدى البعيد، إذ ستؤدي في النهاية إلى إسقاط حق الإقامة عنهم، وهو إجراء تكرّر سابقاً مع نواب القدس في المجلس التشريعي الفلسطيني، بحسب الحموري. وتقدّر أعداد المقدسيّين الذين فقدوا حق الإقامة وأُسقطت عنهم حقوقهم الصحية والاجتماعية والاقتصادية كاملة، منذ شرعت سلطات الاحتلال بتطبيق هذه السياسة مطلع تسعينيات القرن الماضي، بنحو 20 ألف مقدسي، وبأعداد تتراوح سنوياً ما بين 800 و1000 مواطن. وزادت هذه الإجراءات خلال السنوات التي أعقبت استشهاد الفتى محمد أبو خضير حرقاً على أيدي المستوطنين عام 2014.
وقبل سنوات عدة، رفضت المحكمة العليا الإسرائيلية التماساً تقدّمت به جمعية حقوق المواطن، ومركز الدفاع عن الفرد "هموكيد"، يطالبان فيه بـ"وقف سياسة سحب الإقامات من سكان القدس الشرقية الفلسطينيين" ومنحهم مكانة "مقيمين محميّين" من منطلق التمييز بين مكانتهم التي ترتكز على كونهم السكان الأصليين للمدينة، وبين مكانة الأجانب الذين هاجروا إلى البلاد وحصلوا على تصاريح إقامة دائمة.
وتعتبر وزارة الداخلية الإسرائيلية أنّ الانتقال للعيش خارج القدس، وفي باقي أنحاء الضفة الغربية أو قطاع غزة بمثابة الانتقال للعيش "خارج البلاد"، وذلك على الرغم من اعتراف إسرائيل في اتفاقية "أوسلو" بكون المقدسيين جزءاً لا يتجزأ من الشعب الفلسطيني في هذه الأراضي. وبهذه الطريقة، فقد كثير من الفلسطينيين مكانتهم القانونية، على الرغم من أنّهم ما زالوا يسكنون على بعد أمتار عدة من بيوتهم. وزادت سياسة سحب الإقامات من سكان القدس بشكل كبير منذ عام 2006، كجزء من سياسة موجّهة تهدف إلى تقليص عدد السكان الفلسطينيين في القدس المحتلة، إذ سحبت الداخلية الإسرائيلية بطاقة الهوية من نحو 15 ألف مقدسي.