بخلاف اللغات الأخرى بمعظمها، لا تحتوي اللغة الصينية على حروف أبجدية حقيقية، فهي لغة نغمية تتألف من مجموعة رموز تحاكي معاني الكلمات، غير أنّ شكل الرمز لا يرتبط عادة بمعنى محدد بل يتوقف ذلك على طريقة لفظه، الأمر الذي ينتج عنه عدد كبير من الكلمات المتجانسة التي تتوافق ظاهرياً في الشكل وتتشابه أحياناً في النطق، لكنّها تختلف في المعنى والدلالة.
من الأمثلة على ذلك، الالتباس بين لفظ كلمة "موت" والرقم "4"، فهما يتشابهان في طريقة النطق "سي"، لكن لكلّ منهما معنى مختلفاً عن الآخر. هذا التشابه جعل الرقم 4 نذير شؤم وجالباً للمآسي والأرواح الشريرة في مجتمع يعاني من رُهاب (فوبيا) الموت. لذلك يتجنّب الصينيون استخدامه في حياتهم اليومية، فتكاد لا ترى أثراً أو ذِكراً لهذا الرقم في دولة بحجم قارة، يسيطر على سكانها الإيمان المطلق بالخرافات والأساطير الشعبية.
ويكفي للاستدلال على ذلك الاطّلاع على البيانات الآتية الصادرة عن دوائر رسمية في الصين. بحسب دائرة الشؤون المدنية، كان عام 2014 أقلّ الأعوام التي شهدت فيها الصين إقبالاً على الزواج منذ أكثر من عقدَين، وذلك بسبب خوف الشباب من الارتباط في عام يحمل الرقم 4. وبالمثل، كان عام 2004 أقلّ الأعوام خصوبة، إذ شهد عدد المواليد الجدد تراجعاً في ذلك العام بنسبة 25 في المائة مقارنة بالمتوسط السنوي الطبيعي البالغ آنذاك 12 مليون مولود.
كذلك أظهرت بيانات صادرة عن منصة "علي بابا" للتجارة الإلكترونية أنّ فريق ريال مدريد هو أكثر الفرق الرياضية العالمية مبيعاً لقمصان لاعبيه في الصين في خلال العقد الأخير. وكان لافتاً في التفاصيل أنّ قميص كابتن الفريق سيرجيو راموس أقلّ القمصان مبيعاً، فقط لأنّه يحمل الرقم 4، بالتالي لم تشفع للاعب الإسباني نجوميته ودوره في تتويج فريقه ببطولة دوري أبطال أوروبا في عام 2014.
يوميات يحكمها التطيّر
أمّا في ما يتعلق بمظاهر الحياة اليومية، فإنّ الصينيين يتجنّبون اقتناء أرقام هواتف أو لوحات سيارات تحتوي على الرقم 4، كذلك يتجنّبون المواعدة أو الإقدام على أيّ مشروع في يوم يحمل هذا الرقم، مثل اليوم الرابع من الشهر أو الرابع عشر أو الرابع والعشرين. كذلك تخلو مصاعد المباني والمؤسسات والدوائر الحكومية من الرقم 4 الذي يُستبدَل بالحرف "إف" أو الرمز "ب 3".
وتلجأ في العادة شركات عقارية إلى تقديم تخفيضات لتحفيز الناس على السكن في الطبقة الرابعة، كذلك تعمد شركات الاتصالات إلى الطريقة ذاتها لبيع شرائح الهاتف التي تتضمّن الرقم 4، ويصل الأمر لدى بعض الأشخاص إلى تجنّب الاتصال برقم هاتف يتكرّر فيه "الرقم المشؤوم"، لأنّ ذلك مدعاة لمصيبة قد تحلّ بالمتصل.
وتُعَدّ أكثر المحاذير طرافة في هذا الموضوع، تجنّب إعطاء المريض الدواء بأربع جرعات. على سبيل المثال، لو كان العلاج يستدعي تناول الشخص أربع ملاعق من دواء سائل أو أربع كبسولات في اليوم الواحد من دواء محدد، فإنّ ذلك يُقسّم على ثلاث أو خمس جرعات لتجنّب الرقم ذاته.
ولا يقتصر هذا الرُهاب على الشعب، بل ينسحب كذلك على المستوى الرسمي في الدولة. فعندما خسرت الصين محاولتها استضافة دورة الألعاب الأولمبية لعام 2000، تكهّن البعض بأنّ السبب وراء عدم سعيها إلى استضافة أولمبياد 2004 التالية يرجع إلى التشاؤم من هذا العام في البلاد. وبالفعل انتظرت بكين دورتَين قبل أن تستضيف الألعاب الأولمبية في عام 2008، إذ يُعَدّ الرقم 8 واحداً من أرقام الحظ في الثقافة الصينية. وكان لافتاً في ذلك العام إطلاق فعاليات البطولة في الثانية الثامنة بعد الساعة الثامنة في اليوم الثامن من الشهر الثامن.
موروث شعبي
عن هذه الظاهرة، يقول المتخصص النفسي يانغ جيه، في حديث مع "العربي الجديد"، إنّ "الخرافات تحتل جزءاً كبيراً من الثقافة والموروث الشعبيَّين الصينيَّين"، موضحاً أنّ "رُهاب الرقم 4 ظهر مع تفرّعات اللغة الصينية قبل ثلاثة آلاف عام. لكنّه بدأ يظهر في المجتمع مع انفتاح الصين في سبعينيات القرن الماضي، وما تلا ذلك من نهضة شهدت تشييد البناء الطولي والطبقات المتعددة. فبرز آنذاك عزوف الناس عن السكن في الطبقة الرابعة، وثمّة من علّل ذلك بأنّ الأمر أشبه بالسكن في مقبرة". ويلفت يانغ جيه إلى أنّ "لدى الشعب الصيني حساسية مفرطة تجاه الموت. تخيّل وأنت تعدّ الأرقام أن تقول: واحد، اثنان، ثلاثة، موت،... يبدو الأمر قاسياً وصعباً، لذلك حاوَلوا البحث عن بدائل. وحين لم يجدوا سبيلاً لذلك، قرروا شطب هذا الرقم من سجلاتهم وحياتهم إلى الأبد". يضيف يانغ جيه "بغضّ النظر عن غرابة هذه الظاهرة، لا يجب أن تؤخذ كمادة للسخرية من الثقافة الصينية، أو كمثل لمقارنة الإرث والاختلاف الثقافيَّين بين الصين والغرب، خصوصاً أنّ ثمّة ظواهر مشابهة في المجتمعات الغربية من قبيل رُهاب الرقم 13، وخوف الأميركيين من السفر في يوم 11 سبتمبر/ أيلول بعد أحداث برجَي التجارة في نيويورك في عام 2001".
وعن التأثير النفسي لتلك الظاهرة على المجتمع، يقول يانغ جيه: "لا شكّ في أنّ ثمّة تأثيراً كبيراً، خصوصاً على المسنّين، أي الفئة الأكثر إيماناً بتلك المعتقدات". ويستشهد بدراسة محلية أظهرت أنّ "12 في المائة من حالات الوفاة بنوبة قلبية في البلاد كانت في اليوم الرابع من كلّ شهر، وأنّ هذه النسبة ارتفعت إلى 14 في المائة في اليوم الرابع من الشهر الرابع (إبريل/ نيسان)"، مؤكّداً أنّ "الضغط النفسي الناجم عن الإيمان بمثل هذه المعتقدات قد تكون له ارتدادات مميتة".
وعلى الرغم من انتشار هذا الرُهاب وتجذّره في المجتمع الصيني، فإنّ قلة من الصينيين يرون أنّ الرقم 4 ليس سوى عدد مثل الأعداد الأخرى، ولا يرتبط بالضرورة بالشؤم وسوء الحظ، بل أكثر من ذلك، قد يحمل دلالة على الارتباط والاستمرار والتداول. فالأضلاع الأربعة تشكّل المربّع، فضلاً عن أنّه عدد زوجي قابل للقسمة، ما يشير إلى العطاء والسخاء.