في مارس/آذار 2011، وبينما كانت الحماسة على أشدّها والتفاخر بشعار "الجيش والشعب إيد واحدة" يتردد في كل مكان خارج نطاق الميدان، كانت هناك صفعة كبرى مبكرة تتمثل في تحويل مجموعة كبيرة من المدنيين للمحاكم العسكرية على ذمّة قضايا سياسية، من دون إحالتهم إلى قاضيهم الطبيعي، ليتسع ثقب المحاكمات العسكرية للمدنيين منذ ذلك الحين.
صحيح أن المحاكمات العسكرية للمدنيين كانت موجودة قبل ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011، لكنها زادت بكثرة في أعقاب الثورة، وسقط ضحيتها الآلاف، بحسب التقديرات الحقوقية، التي توصلت آنذاك إلى أن الذين مثلوا أمام القضاء العسكري من يناير 2011 إلى أغسطس/آب من العام عينه بلغ أكثر من 11 ألف مدني.
محاكمات عسكرية للمدنيين
وفي السياق، أشارت منظمة "هيومن رايتس ووتش" إلى أنه خلال الأشهر الثمانية الأولى من حكم المجلس العسكري، تمت محاكمة 12 ألف مدني أمام محاكم عسكرية، أي أكثر من إجمالي عدد المدنيين الذين تمت محاكمتهم عسكرياً في زمن الرئيس المخلوع حسني مبارك، مشيرة إلى أن أطفالاً كانوا من بين هؤلاء.
وأفادت بأن الجميع خضع "لمحاكمات عسكرية غير عادلة، لم تكفل لهم إجراءات التقاضي السليمة الأساسية المتوفرة في المحاكم المدنية".
وكانت المواجهة الصادمة في 9 مارس 2011، عندما اعتدت قوات من الجيش المصري على متظاهرين في ميدان التحرير، وتم اعتقال حوالي 190 متظاهراً على الأقل، وإجراء "كشوف عذرية" على نحو 17 سيدة، وأُحيل الجميع إلى المحاكم العسكرية.
وبعد محاكمات عسكرية لم تزد مددها عن 30 دقيقة فقط، قضت المحكمة العسكرية المصرية، بسجن السيدات الـ 17 عاماً واحداً مع إيقاف التنفيذ بتهمة "البلطجة".
حوكم 12 ألف مدني في الأشهر الثمانية الأولى من حكم العسكر
في المقابل، استغرق الأمر تسعة أشهر قبل إحالة النيابة العسكرية القضية الخاصة بادعاءات كشوف العذرية إلى المحكمة.
وعلى الرغم من اتهامه بارتكاب "فعل علني مخل بالحياء" و"إهمال إطاعة الأوامر العسكرية"، إلا أن الضابط أحمد عادل، المتهم الوحيد في القضية، حصل على حكم بالبراءة من جميع الاتهامات في 11 مارس 2012.
وتوالت من بعدها وقائع محاكمة المدنيين أمام القضاء العسكري، وسط تصديق قطاعات واسعة من الشعب للرواية الصادرة عن المؤسسة العسكرية المصرية، ووسط تنامي التشريعات المغلظة للعقوبات في القوانين العسكرية.
ويضاف إلى ذلك، التوسع في حالات محاكمة المدنيين أمام المحاكم العسكرية. وفشل المدافعون عن حقوق الإنسان وعدد كبير من القوى السياسية، في حظر محاكمة المدنيين أمام القضاء العسكري أثناء إعداد لجنة الخمسين لمسودة دستور 2014، الذي تمّت الموافقة عليه في استفتاء شعبي.
وجاء الاستخدام الموسع للمحاكم العسكرية لمحاكمة المدنيين، في وقت حاول فيه الجيش طمأنة المصريين إلى أنه يعمل على صدّ النشاط الإجرامي في البلاد.
وعدّلت المؤسسة العسكرية المصرية قانون العقوبات في 1 مارس 2011، بموجب صلاحيات تشريعية ممنوحة بحسب الإعلان الدستوري بتاريخ 13 فبراير/شباط 2011.
وبناء عليه، تمت إضافة جريمة "البلطجة" إلى المادة 375 مكرر ومادة 375 مكرر(أ) تحت مسمى "الترويع والتخويف والمساس بالطمأنينة". وتم تعريف البلطجة على أنها "استعراض القوة أو التلويح بالعنف ضد المجني عليه، بقصد ترويعه أو التخويف بإلحاق أي أذى مادي أو معنوي به أو الأضرار بممتلكاته".
وبعد محاولات جاهدة لبعض أعضاء اللجنة لحصر الجرائم التي تستدعي المثول أمام القضاء العسكري في المادة 201 المنظمة لذلك في دستور 2014، التفّت السلطة التنفيذية على ما أقره الدستور ووافق عليه المصريون بالأغلبية، وأقرّت مرسوماً بقانون جعل المصريين جميعاً عرضة للمثول أمام القضاء العسكري في أي وقت.
ثم في عام 2014، أصدر الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، القانون رقم 136 لسنة 2014، الذي أعطى المحاكم العسكرية الحق في محاكمة المدنيين لمدة عامين كاملين.
وخلال العام الأول من حكم القانون، تمت إحالة نحو 4 آلاف مدني إلى المحاكمات العسكرية، في مخالفة للدستور وللمواثيق الدولية التي وقّعت عليها مصر. وفي الفترة بين أكتوبر/تشرين الأول 2014 ومارس 2016، تمت محاكمة نحو 7400 مدني أمام المحاكم العسكرية، وفقاً لتقديرات حقوقية.
وأخيراً في أكتوبر الماضي، وافق مجلس النواب المصري، بصفة نهائية على تعديل مقدّم من الحكومة حول بعض أحكام قانون تأمين وحماية المنشآت العامة والحيوية رقم 136 لسنة 2014، القاضي بإحالة المدنيين إلى المحاكمات العسكرية.
ومنح القانون وزير الدفاع (في غير حالة الطوارئ) سلطة اتخاذ تدابير تعادل ما يُتخذ في ظل هذه الحالة.
وقضى التعديل بإلغاء توقيت العمل بأحكام القانون وفكّ ارتباطه بمدة محددة، كما كان معمولاً به كإجراء استثنائي لفترة محددة (عامين).
وبموجب ذلك تخضع كافة الجرائم التي تقع على المنشآت والمرافق والممتلكات العامة والحيوية لاختصاص القضاء العسكري، وذلك اعتباراً من 28 أكتوبر 2021.
بداية الثورة بالمطالبة بتطهير الداخلية
واللافت أن النظام تصدى جاهداً لكل محاولات إصلاح جهاز وزارة الداخلية المصرية، سواء من خلال محاكمة قياداته المتهمين بالتعذيب، أو إجراء تغييرات هيكلية في قطاعاته، أو حتى إعادة النظر في مناهج كليات الشرطة.
وحوكم قضاة وحقوقيون في مصر، بسبب دراسة أعدّوها لمناهضة التعذيب في السجون ومقار الاحتجاز المختلفة.
وسبق أن قالها السيسي صراحة بعد توليه مقاليد الحكم: "هناك مؤسسات لا تتحمل الانتقاد لأنها تتأثر بذلك، مثل مصطلح إصلاح الداخلية"، منتقداً المطالب بتطهير وزارة الداخلية المصرية، التي كانت أحد أهم أسباب اندلاع ثورة 25 يناير، على الرغم من أن الثورة بدأت في الأساس في صورة تظاهرات حاشدة تطالب بتطهير وزارة الداخلية، بعد توالي حالات التعذيب في أماكن الاحتجاز المختلفة.
وأبرز تلك الحالات، مقتل خالد سعيد في 6 يونيو/حزيران 2010 على يد اثنين من أمناء الشرطة بعد تعذيبه، وكان موته بمثابة الشرارة الأولى للثورة، التي وصلت إلى حدّ الدعوة إلى إسقاط النظام.
وكذلك عصام عطا، الذي قُتل بعد تعذيبه على يد ضباط في السجن بإدخال خراطيم مياه في فتحات جسده حتى الموت، في سجن طرة في 25 أكتوبر 2011، بينما كان يقضي عقوبة الحبس لمدة سنتين لتورطه في مشاجرة في 25 فبراير 2011 في منطقة المقطم.
التعذيب في السجون وأقسام الشرطة قاعدة وليس استثناء
وسبق أن أكدت العديد من الدراسات عن التعذيب في مصر التي تضمنت قراءات لملفات الضحايا، أن التعذيب في سجون وأقسام الشرطة صار قاعدة وليس استثناء، وأنه لم يعد مقتصراً على النشطاء السياسيين وحدهم.
وتبيّن أن 76 في المائة من حالات التعذيب، وفقاً لـ"قراءة في قضايا التعذيب واستعمال القسوة - المجموعة المتحدة 2015"، كانت في اتهامات لا علاقة لها بالأوضاع السياسية، وأن الضرب هو الوسيلة الأكثر شيوعاً، إذ تبيّن أن 50 في المائة من الحالات التي تمت دراستها تعرضت للضرب بمختلف الوسائل.
كما تبيّن أن المواطنين الأميين والحرفيين والموسميين والعاطلين عن العمل، المصنّفين أنهم "ضعفاء ومهمّشون بوجه عام"، هم الأكثر تعرّضاً للتعذيب من جانب رجال الشرطة.
ووثّقت العديد من المنظمات الحقوقية حصول ارتفاع مطرد في أعداد الوفيات داخل أماكن الاحتجاز، فضلاً عن عدم سماح السلطات المصرية للجنة الصليب الأحمر بتفقد أوضاع السجون، وعدم تمكين المجلس القومي لحقوق الإنسان من زيارة السجون بشكل مستقل ومفاجئ.
بالتالي، أصبحت السجون بمعزل تام عن أي رقابة، باستثناء النيابة العامة التي لا تحقق بالأساس في جرائم التعذيب، بل أصبحت شريكاً في التستر على الجناة فيها.
التعذيب في السجون "أسلوب شائع"
وفي تقرير لوزارة الخارجية الأميركية عن حالة حقوق الإنسان في مصر لعام 2020، ذكر التقرير أن التعذيب أسلوب شائع في أقسام الشرطة ومراكز الاحتجاز الأخرى في وزارة الداخلية، وأن الإفلات من العقاب يشكل ظاهرة خطيرة بين قوات الأمن.
وهو الأمر نفسه الذي سبق أن أكدته لجنة مناهضة التعذيب في الأمم المتحدة في تقريرها السنوي الصادر في عام 2017، بذكرها أن "مرتكبي التعذيب في مصر يتمتعون بالقدرة بشكل عام على الإفلات من العقاب".
وأوضحت أن ما عزز هذا الإفلات هو "غياب سلطة تحقيق مستقلة لشكاوى التعذيب" و"الافتقار إلى المراقبة المستقلة والمنتظمة لأماكن الاحتجاز".
مرتكبو التعذيب قادرون على الإفلات من العقاب
وفي آخر تقرير له في 21 أكتوبر الماضي، أكد مركز القاهرة لحقوق الإنسان، الذي يعمل من باريس، أن التعذيب في مصر ممارسة منهجية ينعم مرتكبوها بإفلات تام من العقاب.
وأكد التقرير أن الدولة المصرية توفر لمرتكبي التعذيب مناخاً ملائماً للإفلات من العقاب، وذلك من خلال تواطؤ النيابة العامة ومؤسسة القضاء، فضلاً عن غياب أي رقابة ذات معنى من البرلمان.
كما ساهم تواطؤ النيابة العامة والقضاء في تنفيذ أحكام إعدام في قضايا انتُزعت فيها الاعترافات تحت التعذيب، والتغاضي عن استدعاء الشهود أو توقيع الكشف الطبي على المتهمين، أو التحقيق والبت في شكاوى وأقوال المتهمين الذين تعرضوا للتعذيب في مواقع الاحتجاز.
ويضاف إلى ذلك مقاومة الدولة المصرية لأي جهود مستقلة هادفة إلى سد النقص التشريعي لتجريم التعذيب.