ويؤكد قرار الكابينيت الإسرائيلي حجم الأثر النفسي العام في الوعي الإسرائيلي لإعلان فصائل المقاومة الفلسطينية عن قبولها بوقف إطلاق النار وتحديدها موعد بدء سريان ذلك (عند الخامسة والثلث عصراً تقريباً بتوقيت القدس المحتلة).
وقد جاء القرار الإسرائيلي خالياً من أي تصعيد كلامي، وبدون ثرثرة إعلامية أو تحديد للخطوات المقبلة، واكتفى بتعبير عام وضبابي غير ملزم، خلافاً لجولات التصعيد والمواجهات السابقة بين فصائل المقاومة ودولة الاحتلال. فقد حافظت الأخيرة، على المستوى الإعلامي على الأقل، على صمت شبه مطلق فرضه رئيس حكومة الاحتلال، بنيامين نتنياهو، على مجمل وزراء حكومته، وطاوله هو نفسه ووزير الأمن أفيغدور ليبرمان. وانتدبت حكومة الاحتلال بشكل شبه حصري الناطق العسكري للجيش، العقيد رونين ملنيس، ليكون صاحب الكلمة الأولى والأخيرة في ما يحدث ميدانياً، وكذلك في تعداد الأهداف التي أصابتها الغارات الإسرائيلية على القطاع، والتي قدّرت، بحسب الاحتلال، بأكثر من 150 هدفاً تابعاً لحركة "حماس" و"الجهاد الإسلامي" من جهة، ومحاولة رفع الروح المعنوية من جهة ثانية، وخفض مستويات الهلع والخوف لدى سكان المستوطنات الإسرائيلية، سواء المحيطة بقطاع غزة، أم تلك البعيدة الواقعة في الدائرة الثانية والتي طاولها القصف للمرة الأولى، مثل سديروت ونتيفوت وعسقلان.
وكان لافتاً هذه المرة أنّ حكومة الاحتلال امتنعت عن تصعيد لهجتها، باستثناء بيانات المتحدّث باسم الجيش الذي توعّد، أمس الأول، أكثر من مرة، بأنّ "حماس" ستشعر بعد ساعات بقوة الردّ الإسرائيلي. في غضون ذلك، اتضح وفقاً لبيانات غرفة عمليات فصائل المقاومة، وما اعترف به الجانب الإسرائيلي، أن المقاومة الفلسطينية أمطرت إسرائيل بأكثر من 400 صاروخ، في وقت أكّد سقوطها في عسقلان ونتيفوت وسديروت قدرة المقاومة على الوصول إلى ما هو أبعد من محيط غزة، أو ما يعرف بمستوطنات غلاف غزة، بشكل دفع بعض المراسلين العسكريين إلى عدم استبعاد أن يكون "ضعف الرد" الإسرائيلي مرتبطاً بخوف سلطات الاحتلال من شلّ وسط إسرائيل، ومن إطلاق ديناميكية تصعيد قد تصل لحالة المواجهة الشاملة. وهو ما يبدو أن إسرائيل لا تريده في المرحلة الحالية (لأسباب مختلفة) على الأقل، خصوصاً أنّ الهجمات الصاروخية الفلسطينية شلّت، أمس أيضاً، حركة القطارات نحو الجنوب، فيما عُلّقت الدراسة في مستوطنات غلاف غزة، وصولاً إلى تعطيل الدراسة ليوم إضافي في جامعة بئر السبع، ناهيك عن إلغاء الانتخابات لرئاسة السلطات البلدية في عدد من مستوطنات الجنوب.
إلى ذلك، تبيّن أنّ كل المفاخرة الإسرائيلية بقدرات منظومة القبة الحديدية على اعتراض القذائف الصاروخية بنسبة نجاح تفوق التسعين بالمائة، كما كان الادعاء الإسرائيلي خلال عدوان "الجرف الصامد"، لا رصيد لها على أرض الواقع، فقد اعترفت الجهات الإسرائيلية الرسمية بأن القبة الحديدية اعترضت نحو 100 قذيفة وصاروخ، أي أنها حققت نجاحات بنسبة 30 في المائة فقط.
إلى ذلك، ومقابل صمت رجال السياسة في دولة الاحتلال، باستثناء مزايدات ضدّ حكومة نتنياهو، قادتْها زعيمة المعارضة تسيبي ليفني، التي دعت لردّ عسكري قوي ضدّ "حماس" وفتح الباب أمام العودة لنوع من الحوار مع البديل المفضّل لديها، وهو سلطة الرئيس محمود عباس، فقد أبرز محللون في الشؤون العسكرية فكرة أنّ أهمّ ما ميّز هذه الجولة من تراشق القصف الصاروخي ومن ثمّ الغارات الإسرائيلية، هو حقيقة غياب أو تآكل قوة الردع الإسرائيلية، على الأقل بنظر المقاومة في القطاع. وهو ما ذهب إليه عدد من المراسلين في الشؤون العسكرية، من أليكس فيشمان في "يديعوت أحرونوت"، وتسفي برئيل في "هآرتس"، وألون بن دافيد في "معاريف"، ناهيك عن ترديد دعوات من قبل الصحافيين والمحللين لوجوب ردّ إسرائيلي أكثر حزماً وشدّةً ضدّ "حماس" والمقاومة في قطاع غزة.
وعلى الرغم من أنّ أعضاء الكابينيت الإسرائيلي كانوا حبيسي الاجتماع الذي استمرّ حتى الخامسة من مساء أمس، إلا أنّ أجواء ما كان يحدث ويكتب في وسائل الإعلام الإسرائيلية وصلت إلى مسامعهم. ويبدو أنّ شبه الإجماع في وسائل الإعلام الإسرائيلية عن نصر ومكاسب مراكمة للمقاومة الفلسطينية، وخصوصاً الحديث عن الانهيار شبه المطلق لقوة الردع الإسرائيلي، وكذلك الحديث المتواصل، أمس، عن أنّ إعلان "حماس" والفصائل الفلسطينية عن قرار وقف إطلاق النار يعني أنّ يد "حماس" هي العليا في هذه المنازلة الأخيرة، زادت من حرج رئيس حكومة الاحتلال ووزير أمنه أفيغدور ليبرمان، وهو ما رجّح الميل لدى دولة الاحتلال، لعدم التجاوب الفوري والمباشر مع الاتصالات والمساعي الأممية والمصرية، حتى لا تبدو رهينة إشارة المقاومة الفلسطينية، بحيث تقرّر الأخيرة متى تبدأ جولة المواجهة والرشقات الصاروخية ومتى تنتهي.
وكان معلّقون في الصحف الإسرائيلية، بينهم تسفي برئيل في "هآرتس"، قد اعتبروا أنّ جولة التصعيد الحالية ستكون محدودة بغية تسهيل العودة نحو مساعي التهدئة، فيما كتب المعلّق العسكري في الصحيفة نفسها، عاموس هرئيل، أنّ تفاقم الأمور، والتصعيد المتواصل وهذا الكم من الصواريخ التي أطلقتها حماس، "تشير إلى خطوات من شأنها أن تعقّد الوصول إلى وقف لإطلاق النار والعودة لمسارات التهدئة".
ويبدو حرج دولة الاحتلال واضحاً من تحديد وسائل الإعلام لمكاسب أو إنجازات أولية لـ"حماس"، تمثّلت أولاً، بسيطرة الأخيرة على "رواية الأحداث" منذ تمكّنها من إفشال عملية تسلّل القوة الإسرائيلية لخان يونس، قبل أن تنتهي أمس، بإعلان غرفة عمليات الفصائل، وقف إطلاق النار، بعدما رسّخت في الوعي العام أنّها تمكّنت من صدّ وإفشال عملية تسلّل وتوغل سرية أولاً، ثمّ ردّت بالحجم الذي تعتبره كافياً.
ولعلّ أبرز من ذهب أمس في الإعلام الإسرائيلي نحو الحديث عن تكريس مكاسب "حماس" مقابل الوهن الإسرائيلي في الردّ، كان محلّل "يديعوت أحرونوت"، رون بن يشاي، الذي اعتبر أنّ "المنظمات الفلسطينية - وليس كما كان متوقعاً أن تكون إسرائيل - هي التي أطلقت حملة منظمة بعد استغلالها لفشل عملية التسلّل في خان يونس"، مضيفاً أنّ "المنظمات في غزة سعت بالأساس إلى تعزيز قوة ردعها في مواجهة إسرائيل، وجعل الأخيرة تفكّر مراراً قبل الاتجاه لتنفيذ الغارات الجوية، وكل ذلك بموازاة مواصلة حماس والجهاد الإسلامي إدارة حرب استنزاف ضدّ إسرائيل".
وأقر بن يشاي في دعواته لتكثيف الضربات الإسرائيلية، بأنّ "الردّ الإسرائيلي الحالي وبالقوة المستخدمة، لن يحقّق لإسرائيل هدف استعادة قوة الردع ضد حماس". ولم يخف بن يشاي رؤيته بأنّه "لا يمكن استعادة الردع بدون ضرب حماس بدرجة تجعلها تتوسّل لوقف إطلاق النار".