وزير الأوقاف وسؤال الإسلاميات في المغرب
داخل أسوار جامعة محمد الخامس في الرباط، قدّم الباحث والمؤرّخ ووزير الأوقاف المغربي، أحمد التوفيق، محاضرة مطولة عنوانها "الدراسات الإسلامية إلى أين؟". وهو موضوعٌ من الطبيعي أن يشتغل به وزيرٌ يُعنى بالشأن الديني، ويسهر على إدارة شؤونه. ولهذا، المتوقع أن تكون معالجته الموضوع مهمةً في بابها، مبنيةً على خبرة وبعد نظر، ومشحونةً بملاحظات وتوصيات عديدة موجّهة إلى مزيد من تجويد هذا التخصص، وفتحه على المجتمع والعالم.
وجد الوزير نفسه مدعوّا إلى أن يبين الدواعي الأولى لتأسيس السلفية الوطنية في مغرب ما بعد الاستقلال شعبة الدراسات الإسلامية في الجامعة، جوابا على تغوّل المد اليساري العالمي وامتداداته المغربية وانجراف النخبة المغربية بعيداً عن التدين المغربي وامتعاضها منه. والمقصد من تذكير التوفيق بهذا عدم نسيان أهداف تأسيس هذا المسلك الجامعي.
وعليه، الحديث عن الأصول التي انبنت عليها فلسفة الشعبة وسيلة من الوزير الباحث لتأكيد ضرورة المراجعة التي يلزم العلماء والباحثين داخل هذه الشعبة أن يقوموا بها، مراجعة تقوم على أسئلة، حصرها المحاضر في جوانب، أهمها العناية بالعلوم الإسلامية داخل المغرب وعلى طريقة المغاربة، ولذلك ذكّر بما كانت عليه المدارس الإسلامية العتيقة في مغرب قبل الحماية الفرنسية، وما كان يدرّس فيها، وخطتها في التدريس، ومسلك علماء المغرب فيها.
أكد الوزير على ضرورة المراجعة التي يلزم العلماء والباحثين أن يقوموا بها
واسترسل محقّق كتاب "التشوّف إلى رجال التصوف" في عرض أسباب أخرى تدعو إلى مراجعة مناهج هذه الشعبة (وبيداغوجياتها) ومعارفها داخل الجامعات المغربية، كابتعادها بل وامتعاضها من الاشتغال بالمتن المغربي، والانفتاح، في المقابل، على ما قد يكون مثار فتنة ومنازعة وجلبة، فأورد نصوصاً موزّعة بين ابن رشد والغزالي وابن تيمية وغيرهم من القدامى. وليس من شيءٍ يودّ توكيده في ذلك، إلا النظر في كيفية خدمة الدين والعلوم الإسلامية للناس، مؤكّدا على مسألة الرفق بالأميين، والرحمة بهم، أي من خلال جعل المعارف الإسلامية مدخلا لخدمتهم في معاشهم، كما كان عليه سابق أمرها. ويَعُدّ ذلك مسلكاً إسلامياً أصيلاً، وجّه علماء الإسلام في عدم زجّ الناس، ممن ليست لهم دراية بالدين، ضمن مساجلاتٍ كلاميةٍ أو بلاغيةٍ قد تزيغ بهم عن الجادّة وتزيد من فرقتهم، بدل أن تقوم بالعكس.
ثم أردف بنصوص المعاصرين، مثل باروخ سبينوزا، من الفلاسفة، وكذلك مؤرّخ الأخلاق، ألسادير ماكنتاير، أو شيخ المؤرخين الأميركيين مارشال هودجسون، وغيرهم، بغرض نقاش مسألة انفتاح الشعبة على العالم، وقدرة المنخرطين في أسلاكها على نفع شعوبهم بما يتناسب وسقف الواقع المعاصر، وقدرة الطلبة على المدافعة والانخراط في التنمية المجتمعية الشاملة. ولذلك عدّ قراءة أعمال الأسماء السابقة واجبا على المنتسبين لهذه الشعبة. وفي ارتباط بذلك، أردف ملاحظاته بحديثٍ عن علاقة الطالب باللغات، والتي لا ينبغي أن ينزل في سلّمها عن الدراية بلغتين أجنبيتين، قراءةً وكتابةً، "بشكل جيد"، حسب عبارته.
مراجعة تقوم على أسئلة كثيرة أهمها العناية بالعلوم الإسلامية داخل المغرب وعلى طريقة المغاربة
أما حديثه عن مسلك الدراسات الإسلامية في الغرب، وخصوصا جامعة هارفارد، مثلاً، والتي كان له سابق تدريس فيها، فإنه يود التوكيد على وجه التقاطع والمباينة بينها وبين الدراسات الإسلامية في المغرب، تقاطع ينبني على أهمية المعارف وتدريس العلوم الإنسانية والأديان داخل هذه المسالك العلمية، ودورها في بناء شخص الباحث داخلها وتمكينه من الحضور والبروز داخل تخصّصات عدة. أما وجه التباين، والذي تأسّف له التوفيق كثيرا، فأن هذه الشعبة داخل الجامعة الغربية استطاعت أن تمنح طلبتها كفاية جيدة في قيامهم بدور الدعوة والتبليغ، إذ لا يرى انفصالا بين دراسة العلوم الإسلامية وحفظها استمرار حضور الدين بين الناس وخدمته مصالحهم، وخدمة علماء الإسلام شؤون المجتمع والإسهام في حلّ مشكلاته. ولعله يقصد بالدعوة هنا، حسب فهم كاتب هذه السطور سياق كلامه داخل المحاضرة، التوسّط في شرح الإسلام وتقريبه إلى الناس، وسد الطريق على توجهات إيديولوجية كثيرة، حسب عبارته المسببة للفتنة والإرهاب والتطرف.
الحديث عن "التبليغ" للإسلام وتعاليمه، والاندماج داخل المجتمع، سيعيدنا إلى مسألة تداخل الدعوي والمعرفي
وقصد جعل كلامه أكثر نجاعة، قدّم إحصائيات شملت عدد الأطروحات المناقشة في هذه الشعبة داخل جامعة محمد الخامس منذ تأسيسها (مائتي أطروحة)، وبناء على قيمة مواضيعها، أكد مجدّداً على ضرورة دمج تخصّصات عدة داخل حقل الدراسات الإسلامية، وداخل محفظة طالب هذه الشعبة، كالفلسفة، والتاريخ، والسوسيولوجيا.. إلخ. ولا يخفى أنّ العناية بالتاريخ دفعت الوزير إلى اقتراح دراسة "البيعة" داخل مواد هذه الشعبة، باباً تاريخياً ومستقبلياً في الآن نفسه، لما له من القدرة، حسب التوفيق في جعل الباحثين والطلبة، أي علماء المستقبل، يعون علاقتهم بالامتدادين، الحضاري والديني، للبلد الذي ينتمون إليه، والمسلك العقدي الذي ارتضاه المغاربة "تقليداً" يحبل بعديد من التضمينات والمعارف والاختيارات التي لا بدّ من الوقوف عند مقاصدها الكلية.
وعلى العموم، تحمل المحاضرة في طياتها رسائل إلى المشتغلين بهذا التخصص في المغرب، كما تنبئ عن رياح مقبلة ستغير وجه الشعبة وتزحزح صورتها، غير أنّ المهتم قد تشكل عليه، في نظرنا، مسألتان، فهو وإن ثمّن دمج العلوم داخل هذه الشعبة وثمّن فتحها على العالم والتخصصات الأخرى، مما لا ينكر قيمته اليوم إلّا جامد يعيش عصراً غير الذي نحن فيه، فإنّ الحديث عن "التبليغ" للإسلام وتعاليمه، والاندماج داخل المجتمع، سيعيدنا إلى مسألة تداخل الدعوي والمعرفي، والكلّ يعي، والوزير كذلك، أهمية الاستقلال الأكاديمي للجامعة، وتجرّدها في طلب المعارف وبناء العلوم. وثاني المسائل، تدريس "البيعة"، التي تقتضي من التوفيق أن يوضح علاقتها بدراسة أشكال الحكم والسياسات الشرعية والدولة وعلاقة الدين بالسياسة وغيرها، ليكون سياق تدريسها معرفياً، بعيداً عن تخوّفات تأميم الشعبة وجعلها لسان حال جهة معينة.
وأخيراً، كيف سيكون قياس السرعتين، سرعة الوزير وأفقها وسرعة المشتغلين داخل أروقة هذه الشعبة، هل يتلقونها بالترحاب والتنزيل أم يرغبون عنها، لتقف عند حدود المحاضرة والاقتراح لا غير؟ وحسب عبارة العلامة محمد المختار السوسي، رحمه الله "المستقبل كشّاف".