المغرب ودبلوماسية الأمن الروحي في أفريقيا
لطالما أتقنت الكولونيالية الغربية استثمار ثنائية السلطة والمعرفة في أفريقيا، ووظفتها بذكاء في صياغة خطاب أيديولوجي يخدم تعزيز مصالحها السياسية والاقتصادية وغيرها، فراكمت بذلك رصيدا معرفيا مهمّا، جعلته المدخل للتعامل مع قضايا كثيرة في المنطقة، وسبيلا لفهمها وتوجيهها. ولكن، هل تستطيع دولة، كالمغرب، باعتبارها بلدا ناميا، أن تُحسن إعادة صياغة هذا الخطاب، وتستثمر بنجاح هذه الثنائية من جديد، وتخلق بدورها خطابا أيديولوجيا وسردياتٍ جديدة قوية ومقبولة، تخدم مصالحها وتوسع دائرة نفوذها في أفريقيا وخارج مجالها التقليدي في الغرب الأفريقي.
قياس درجات النجاح والفشل في هذه المهمة، حاولت أن تكشفها دراسةٌ أنجزت ضمن ملف العدد 106 (يوليو، أغسطس، سبتمبر 2022) من مجلة المناهل التي تصدرها وزارة الشباب والثقافة والتواصل المغربية، وتناول موضوع "الدراسات المغربية حول أفريقيا"، ونسّقت مباحثه فاطمة الحراق. عنوان الدراسة "الإسلام المغربي في أفريقيا: التقاطعات المركبة بين السرديات التاريخية والأطروحات المعرفية"، أنجزها الباحث في جامعة محمد الخامس سليم حميمنات.
تجسّدت بداية رصد التحوّلات في العلاقة المغربية الأفريقية عبر ملاحظة تنامي جاذبية النموذج الديني المغربي، واتّساع رقعة الاعتراف به داخل مختلف أنحاء القارّة، ما يعني أن هنالك حركية مؤسّساتية مواكبة، تقوم بدور الدبلوماسية الموازية، وتنزيل رؤية المغرب الجديدة تجاه أفريقيا. تولّدت هذه الخلاصة عند الباحث من خلال زيارات ميدانية، وحوارات مباشرة مع الفاعلين والقيادات الدينية، وكذلك من خلال رصد فاعلية هذه المؤسّسات في الواقع.
يؤكّد الباحث أن هذه العلاقة ليس حديثة، وإنما هي وليدة تقاطعاتٍ تاريخيةً بين المملكة الشريفة، في عهود مختلفة مع المرابطين والموحّدين وغيرها من الدول التي تعاقبت على حكم المغرب. علاقة تفاعلية، وليست ذات تأثير أحادي، وهو ما يمنحها صبغة التديّن الأفريقي المركّب، الذي ساهم في صياغة "الإسلام المغربي"، حسب اصطلاح الباحث. من دون أن ينفي التأثير الروحي المغاربي في الجسم الأفريقي. ويحاول الباحث كذلك من خلال هذه الخلاصة أن ينفي، أولا، الرؤية الكولونيالية بشأن الحضور الإسلامي في افريقيا، التي لطالما صوّرته إسلاما أحادي الجانب، دخيلا ومستوردا. هذه الرؤية هي التي سيوظّف المغرب نقيضها، أي إسلام أفريقي مركّب، لمزيد من توطيد علاقته بالجسم الأفريقي الكبير. من أدلة هذا الاستثمار استقدام الملك الراحل الحسن الثاني علماء أفارقة عديدين للدروس الحسنية الرمضانية، واستثمار الوجه الشرعي للملَكية باعتبارها الإمامة الكبرى. والتي لطالما شكّلت حبل الصلة مع العمق الأفريقي، ولذلك حرص الملك محمد السادس على البروتوكول المخزني عبر أداء صلوات الجمعة في عواصم أفريقية مختلفة، واستقبال القادة الدينين، بما فيهم زعماء الزوايا الصوفية، كالتيجانية والمريدية والقادرية وغيرهم.
أحدث خروج المغرب من منظمة الاتحاد الأفريقي عام 1984 ثغراتٍ عدة في العلاقة الأفريقية المغربية
أحدث خروج المغرب من منظمة الاتحاد الأفريقي عام 1984 ثغراتٍ عدة في العلاقة الأفريقية المغربية، لم يكن ممكنا للمغرب، حسب الباحث، السماح بتوسعها وتأثيرها السلبي على قضية المغرب الرئيسة، قضية الصحراء، فأسس رابطة علماء المغرب والسينغال سنة 1985، وكذلك معهد الدراسات الأفريقية سنة 1986. حيث ركّزت الأولى اشتغالها على الداخل الأفريقي، في التواصل مع مختلف الفاعلين الدينيين في السنغال، بالأخص قيادات الزوايا الصوفية. وركّزت الثانية على التعريف بالانخراط المبكر للإمبراطورية الشريفة في حركية التبادل العلمي والثقافي، عبر إبراز وثائق ونصوص وشواهد تاريخية تؤكّد ذلك.
بين الباحث أيضا أن مواطن التميّز في المشروع الديني المغربي ضمن المشاريع الأخرى العابرة للحدود، عدم سعيه إلى اختراق النسيج الديني الأفريقي المحلي واستتباعه، بل استثمار التفاعل التاريخي الموجود، والبناء عليه، بالأخص، استثمار الثوابت التاريخية المميّزة للتدين المغربي: المذهب الأشعري عقديا، المذهب المالكي فقهيا، التصوّف السني روحيا وتربويا. إلى جانب اعتماد المؤسسات المذكورة على خطاب أيديولوجي يقوم على استثمار سردية "الإرث الروحي المشترك". والاستفادة من الوعي المتزايد عند عديد من بلدان أفريقيا جنوب الصحراء بأهمية الحفاظ على التقاليد الدينية أمام موجات التبشير الدينية في القارّة.
وقد شكّل سقوط نظام معمر القذافي في ليبيا سنة 2012، والاضطرابات السياسية والأمنية التي تلته في مالي وأماكن أفريقية أخرى، فرصة كبيرة لمزيدٍ من التوسّع للسياسة الدينية المغربية العابرة للحدود تجاه أفريقيا. وفرصة لتجريب استراتيجية بديلة وناعمة تقدّم المغرب لاعبا رئيسيا في إرساء السلم والاستقرار في المناطق الأفريقية الهشّة.
رغم محاولة المغرب تقديم خطاب مرن وبراغماتي يستقطب الجميع، إلا أن ذلك لم يمنع نشوب مشاحنات بين التوجهين، الصوفي والسلفي
رصد الباحث كذلك التعثرات التي واجهت هذا المشروع الديني المغربي في أفريقيا، على سبيل المثال، المشكلات الداخلية لرابطة علماء المغرب والسنغال، التي تمتّعت بدعم مالي وسياسي مغربي كبير، لكنها، تحوّلت إلى مؤسّسة استفردت بها "الأسرة الصوفية النياسية"، وهي إحدى العائلات التيجانية النافذة في السنغال، والتي ينتمي لها الأمين العام الدائم للرابطة الشيخ إبراهيم ديوب (تمّت تنحيته فيما بعد)، ولم تقم بدورها المرجوّ من التجميع والاستقطاب لجميع ألوان الطيف الديني في السنغال، فما بالك بأفريقيا!، الأمر الذي دفع المغرب إلى التفكير في معالجة هذا التعثر. وفي هذا السياق، أسّس المغرب مؤسّستين جديدتين سنة 2015، محمد السادس للعلماء الأفارقة، ومعهد محمد السادس لتدريب الأئمة والمرشدين والمرشدات، المرتبطة بقيادة مباشرة وفعلية من الملك محمد السادس. والمعبّرة عن الوسائل الروحية التي يتدخّل المغرب من خلالها في تحصين القارّة من التطرّف والإرهاب، عبر المحافظة على الثوابت الدينية المشتركة التي تعدّ من أهم أسس الهوية الأفريقية.
ويعتبر الباحث أن التحوّل من سردية التراث الروحي المشترك نحو سردية الثوابت المذكورة، تواجهه عراقيل لابد من إيجاد حلٍّ فعلي لها، فإذا كانت هذه الثوابت غير مختلف عليها في دول شمال أفريقيا وغربها، فإنها مصدر اختلاف ونزاع كبير داخل الدول الأفريقية الأخرى، وخصوصا بعد رسوخ أشكال أخرى من التديّن الإصلاحي وغيره من الأشكال الأخرى. ورغم محاولة المغرب تقديم خطابٍ مرنٍ وبراغماتي يستقطب الجميع، إلا أن ذلك لم يمنع نشوب مشاحناتٍ بين التوجهين، الصوفي والسلفي، على سبيل المثال (كما حصل في ندوة عن السلفية، عقدتها مؤسسة العلماء الأفارقة في مراكش سنة 2018)، بل بدأ في زعزعة صورة التديّن المغربي الوسطية والجذّابة، ذات الامتداد التاريخي، وهذا مما يزيد تعقيد مسار ترسيخ قدم المغرب السياسية والدينية في أفريقيا، واحتياجها لمزيد من الاشتغال، لتجاوز العقبات التصوّرية والمادية، وتجاوز كثير من البيروقراطية المؤسّساتية التي تؤخّر تفعيل تأثير بعض المؤسّسات المذكورة، كما حصل مع المؤسّسة نفسها التي عرفت، حسب تعليق الباحث، تباطؤ عملية تأسيس أجهزتها وفروعها الخارجية خمس سنوات.