مقاطع من أزمة التعليم في المغرب
تخبّط ملف التعليم في المغرب منذ الاستقلال بين برامج إصلاحية عديدة، بدأ أولها عام 1957، إلى مشروع الرؤية الاستراتيجية 2015 – 2030. مقترحات عديدة تفاوتت بحسب امتلاك كل حكومة برنامجها الإصلاحي الخاص، والتي استنزفت ميزانية الدولة مصاريف وديوناً تستلزم بالضرورة أن يحصّل المغاربة نتائج إيجابية على مستوى المردودية والجودة وتنمية الرأسمال البشري في البلاد، فماذا كانت النتيجة؟
بالتأمل في التجارب الإصلاحية المذكورة، ومقارنتها بما يقرّه الجميع عن تطورات الملف التعليمي المأزوم في المغرب، فإن النتيجة مخيبة للآمال. وباعتراف رسمي من مؤسسات الدولة في تقارير مختلفة، يجد المرء نفسه أمام "إصلاح" بمعناه السياسي، يقوم على مبدأ خدمة البرنامج الانتخابي للأحزاب التي توالت على السلطة، ولا يتجاوز سقف العنوان الذي وضع له. ولهذا لا نستطيع أن نحدّد تعريفاً لهذا الإصلاح المرجوّ، أو معرفة ما نودّ إصلاحه، ولماذا لم نستطع أن نحقق فيه أي نتيجةٍ تُذكر! مفهوم ضبابي يخبرك بحقيقة صادمة، عدم الاكتراث بمستقبل البلاد، من حيث تنمية مواطنيها أو الرفع من درجة استجابتهم للتحدّيات العالمية المستقبلية.
ليس ما يرد هنا عدمية كما قد يصوّرها بعضهم، لأنها حقيقة يقرّها الجميع، المغاربة قبل غيرهم، وإذا احتكمنا لتقارير التنمية البشرية العالمية، فقد صنفت (تقرير الأمم المتحدة 2020) المغرب في المرتبة 121 على سلم التنمية البشرية، و14 عربياٍ، بعد كل من مصر والأردن وفلسطين والجزائر وليبيا وتونس ولبنان والقائمة طويلة.
عندما نصل إلى مستوى التلاعب بمصير الأستاذ، والمسّ بمكانته الاعتبارية، فذلك يعني أننا وصلنا إلى نقطة القتل النهائي لشيء اسمه التنمية البشرية في هذه البلاد
قد يعاتب بعضهم كاتب هذه المقالة بالقول إن النخب التعليمية التي ينتجها المغرب، رغم كل هذه المحاولات الإصلاحية الفاشلة، ظلت ذات مردودية جيدة إلى حد ما، وهو أمرٌ صحيح، لكن ليس بإطلاق، فقد أخذت هذه المردودية نفسها مساراً تنازلياً بلغ اليوم درجة عدم امتلاك ثلثي المتعلمين ناصية الكفايات التعليمية الأساسية الدنيا في القراءة والرياضيات والعلوم (حسب تقرير الجمعية المغربية لتحسين جودة التعليم 2022)، فما بالك بغيرها من المهارات والكفايات الأخرى. ومن لعب صمام الأمان داخل كل هذه التعثرات الإصلاحية، المربكة والكوميدية، هو الأستاذ، فرغم أن كثيرين يتسرّعون بإلقاء اللائمة على هذه الفئة، فإنهم يفعلون ذلك من دون دراية بالمجهود الحقيقي الذي تبذله في تجاوز التحدّيات التي تواجهها، سواء على مستوى المجال القروي، وعند الفئات المهمّشة، وتعليم الإناث، ومواجهة العنف عند التلاميذ، وتحدّي الهدر المدرسي، وغيرها من المشكلات الفعلية. ولهذا، أن نرتبك في الإصلاحات، فذلك يعني الارتباك والفشل في ضمان مستقبل متوسط، ولن نقول جيداً، للتنمية البشرية داخل هذا المجتمع. ولكن عندما نصل إلى مستوى التلاعب أيضا بمصير هذا الأستاذ، والمسّ بمكانته الاعتبارية، سواء المادية والمعنوية، ودخوله في دوامة اللا استقرار، فذلك لا يعني إلا شيئاً واحداً، أننا وصلنا إلى نقطة القتل النهائي لشيء اسمه التنمية البشرية في هذه البلاد، فمنذ جرى العمل بنظام التشغيل عبر التعاقد داخل أسلاك التعليم (أي التوظيف بعقود مؤقتة بدل التعيين الدائم)، دخل المناخ التعليمي العام دوّامة من العبثية التي لا يمكن وصفها، والتي أوجدت قلقاً بالغاً عند كل الفئة التعليمية. وبدل التفكير في الجوانب الإبداعية للارتقاء بالمؤسسة التعليمية وجودة المنظومة كلها، دُفعت هذه الفئة إلى أن تنشغل بهمّ واحد، وهو مكانتها الاعتبارية في المجتمع، ما انعكس سلبا على المتعلمين، فصار الأستاذ محطّ سخريتهم قبل غيرهم، وصار خبر تأديب السلطات الأساتذة بالهراوات مسألة مألوفة عندهم. هذا، إلى جانب الترويج الإعلامي المسيء والمقصود لصورة الأستاذ، والذي حقق غرضه في تأليب الأسر وحنقها على هذه الفئة. والحقيقة المُبكية هنا أن المغاربة كانوا في ذلك يدفنون مستقبلهم الذي لا يملكون رصيداً غيره يعوّلون عليه في بناء مستقبلهم.
استخفاف بحقوق فئة المعلمين الحسّاسة والحيوية داخل المجتمع
عند النظر إلى مسيرة المفاوضات التي خاضتها التنسيقية المستقلة للأساتذة المتعاقدين، والذين يشكلون أغلب أساتذة المنظومة التعليمية المغربية اليوم، تتلمّس حقيقة الاستهانة الكبيرة بمستقبل المغاربة، عبر الاستخفاف بحقوق هذه الفئة الحسّاسة والحيوية داخل المجتمع، حيث حرم هؤلاء في بدايات العمل بهذا النظام (2016) من أبسط حقوقهم الدستورية المعروفة في نظام الوظيفة العمومية، والتي كانت تقدم لهم في المقابل بوصفها مكاسب لنضالهم المتواصل، وهي مهزلة حقيقية يعيشها المغرب ولأول مرة في تاريخه. ولعل جديد مسلسل هذه الحملة على الأمل الأخير داخل منظومة التعليم المغربية، المحاكمات التي تعرّض لها هؤلاء، والأحكام المقيدة للحرية تجاههم. كل ذلك إلى جانب الممارسات السابقة، وأدت إلى طرد عديدين منهم بأشكال تعسفية، بتوجيه من الرئيس المباشر فقط. فكيف بمن يجد نفسه معرّضاً لأن يكون في أي لحظة مجرّداً من أي كل حقوقه الوظيفية أن يستشعر أي استقرار في عمله، بدل أن يفكّر في تطوير مستواه المعرفي ومستوى من يسهر على تعليمهم؟
الأخطر في كل هذه العملية أن تعليماً يعيش كل هذه العراقيل والمحن تأتي عليه لحظة كورونا التي لم يكن من ملجأ فيها إلا المعلم، والذي بذل كغيره جهداً جباراً في التقليل من تبعات الفراغ الذي أحدثته سنتان من الحجر والتقييد على الحضور داخل الأقسام. ويعرف الجميع أن الجائحة أسهمت في تدنّي مردودية التعليم عند متعلمين عديدين، وفي أغلب البلدان، وجعلتنا ندرك مجدّداً قيمة التعليم الحضوري ومنافعه، لكنها في المغرب زادت من غور الجراح، وزادت من تدنّي مستويات التعليم عند المغاربة، ما جعلنا نصل إلى مستوى مظلم من التشاؤم بخصوص مستقبل المغرب التنموي.