فرح قادم من البصرة

15 يناير 2023

عراقيون يحتفلون بفوز منتخبهم ضمن "خليجي 25" في الناصرية (12/1/2022/فرانس برس)

+ الخط -

تكاد رواية العراقي سنان أنطوان البديعة "يا مريم" (دار الجمل، بيروت، بغداد، 2012) تختصر حال العراق بتدقيق شديد، حين صوّر العذراء في أبيات معبّرة، وهي تهزّ جذع النخلة، ليتساقط الموت سخياً. وعنون هذا المقطع بـ"الأم الحزينة"، دلالة على أمهات العراق الثكالى. وليس بعيداً من ذلك، أن تختار ذائقة الروائي العراقي أحمد سعداوي، في روايته "فرنكشتاين في بغداد" (دار الجمل، بيروت، بغداد، 2013) أن يبدأ مقطوعته الأولى "المجنونة" بعبارة "حدث انفجار بعد دقيقتين من مغادرة باص الكيا.."، ليدلّنا، هو الآخر، على الموت وهو ينفجر هذه المرّة أشلاء، ليطاول الجميع.

كانت الرواية الأولى ضمن القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر) 2013، وفازت الثانية بالجائزة في 2014، فهل منحت ضراوة الموت القادم من العراق كل هذا العنفوان للقلم العراقي كي يحزن ويُبدع في حزنه وأساه؟!

ولكن، ماذا حدث في البصرة تحديداً، حتى نتأمل فرحاً قادماً منها؟ لا شيء، غير أن كرة القدم لا تزال مستقرّة في ديار العرب، فبعد أن تألقت الكرة العالمية في قطر (كأس العالم 2022)، وبعد أن اجتاز القطريون الامتحان بنجاح، وبعد إنجاز رياضي مغربي مبهر، انتشر نوعٌ من التفاؤل منقطع النظير عند الشعوب العربية الإسلامية، وهم الذين لطالما كان الفشل والفضيحة عنوان كل شيء يلمسونه، غير أنهم، هذه المرّة، يغايرون العادة، فصارت كرة القدم، بطابعها الرياضي والسياسي والثقافي، حافزاً لهذه الشعوب المكلومة على أن تعيد النظر في روابطها ومستقبلها، وما هي قادرة عليه فعلاً، وبعبارة المونديال القطري، عاد العرب إلى الحلم مجدّداً.

صارت البصرة تعجّ بالحياة، الكل خرج للسهر والأكل ومقابلة الضيوف، والغناء والفرح مع المنافسين

هذه المرّة مع كأس الخليج العربي 25، تطلع علينا البصرة بكل زينتها، ولا يكاد أيٌّ منا يستطيع تجاوز الفرح الكبير البادي على وجوه العراقيين، فرحين بالتنظيم، وفرحين باستقبال الضيوف، وفرحين بلعب الكرة والفرجة، وفرحين بالحياة كسائر شعوب الأرض. يزاولون يوميّها، وروتينها، ويستمتعون بفاصيل التشجيع والشعارات والحوار مع أبناء دول الجوار. يعرف العراقيون جيداً قيمة هذه الأشياء التي افتقدوها، وحدهم يدركون حجم الإنسانية داخلها.

تابع الجميع بشغف الافتتاح الذي نظّمه العراقيون، بدءاً من تميمة البطولة، "السندباد العراقي"، سليل حكايات ألف ليلة وليلة، ورمز البهجة والاكتشاف والعالمية، فكان الاختيار موفّقاً، دلّ على غنى ثقافي مبهر لا يمكن أن تخطئه عين المتابع، ومن ثم الظهور الثقافي والإثني المتعدّد على المنصّة، كان العراق يقف كله مستقبلاً ضيوفه، بكل ألوان طيفه. ولا يمكن لحدثٍ كهذا ألا يؤثر في العراقيين، والعالم، بعد طمسٍ كبيرٍ حاق بتعدّدهم وغناهم الحضاري، فكان الشعر حاضراً، وكان التاريخ حاضراً، قبل الإسلام وبمجيئه وما بعده، وأخيراً النغم العراقي بشجنه الفرح هذه المرّة، وليس الحزين.

صارت البصرة تعجّ بالحياة، الكل خرج للسهر والأكل ومقابلة الضيوف، والغناء والفرح مع المنافسين، الكل خرج ليقول لنا إنهم يريدون من العالم أن يراهم، أن يعرف أنهم شعبٌ لا يزال يعرف كيف يفرح كغيره من شعوب الأرض. ولكل من أراد دليلاً على ذلك، فليرجع إلى فيديوهات المشجّعين وتصريحات سكّان البصرة وأهل العراق قاطبة. كمية من الفرح أطلت من عيون هؤلاء، تبيّن حجم عطش هذا الشعب للفرح والأمان.

علق بعضهم، في تدويناتٍ هنا وهناك، بأن الأولوية للداخل العراقي، وأن البلد ليس أهلاً لذلك. وعلق آخرون بأن هذه البطولة إنما هي إخفاء لحجم الفساد والخراب العراقي داخلياً، وغير ذلك من تعليقاتٍ تصبّ في خانة انتقاد تنظيم العراق البطولة. ولكل الحق طبعاً في التعبير عن وجهة نظره كيفما كانت. لكن، ليس بتبخيس الناس فرحهم، فالأناس العاديون والبسطاء، كما يسميهم آصف بيات، يعيشون الحياة في كل تفاصيلها، ديناً وفناً وكرةً وسياسةً وغير ذلك، ليست هنالك حدود لتداخل ذلك كله في أذهانهم، لأنهم ببساطة يستمتعون بكل لحظة فرح تأتيهم، لأنهم وحدهم من يعرف قدرها، حين تغيب وحين تحضر.

يبين الفرح في أعين أهل البصرة حجم عطش العراقيين للفرح والأمان

على الأقل، يقدّم العراق وجهاً آخر هذه المرّة، ويجعلنا نستوعب أنه بلد قادر على استضافة مثل هذه التظاهرات، واستقبال الضيوف وإمتاعهم، وإنْ كان ذلك هو الأصل، لكن مفارقات الواقع وأساه جعلا الأمر إنجازاً. لهذا، لا يمكن الانتباه إلى كل منتقد سعادة هذه اللحظة، وفرح أهل العراق بها، ولا يمكن مسايرة أحد منهم في النقد والجميع يتابع مباراة منتخب العراق أو أيٍّ من الفرق الأخرى، فلهذه المستديرة فلسفة ومنطق آخر، مفادهما أننا نستطيع أن ننتقد، ولكن بعد نهاية المباراة!

ومن أشياء لافتة شدّت عين الملاحظ، كيف حرّكت البطولة وزادت كل مشاعر الوحدة عند أبناء الخليج، وخصوصاً أنها تزامنت مع نهاية بطولة كأس عالم أقيمَت في بلد عربي، كثير منهم سجّل لحظات سفره بكل حمولتها من الفرح نحو العراق، مشجّعاً منتخبه، وسعيداً بزيارة العراق. ولعل حالاً كهذا، ليس يُحسن وصفه غير الشاعر عبد الوهاب البياتي في ديوانه "الذي يأتي ولا يأتي"، حين قال:

البشر الفانون/ يحطمون بيضة النسر، ويولدون

من زبد البحر ومن قرارة الأمواج/ من وجع الأرض ومن تكسر الزجاج

أبيات يعلّق عليها الكاتب الليبي الصادق النيهوم: ".. فليس ثمّة ما يستحق منحة البقاء سوى الأفكار الكبيرة والعظيمة التي تنهض من خلال الرماد لتأخذ بيد الإنسان". .. لنستمتع إذاً، بالفرح القادم من البصرة.

90B07B72-ECA0-4CEE-AE30-DE797621F18A
عبدالله هداري

كاتب وباحث مغربي يقول: "فعل الكتابة بعد الثورات يعكس قدرتنا أن نوقع تغييراً وأن نغاير معطيات اليأس الذهني/الواقعي، المتحكمة فينا لعقود، ونخلق عوالمنا الممكنة/الجديدة".