في معنى مساندة الشعوب الغربية فلسطين؟
نشرت صحيفة الواشنطن بوست (6 نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري)، تقريرا أنجزه تيموتي بيلا وكيم بيلاور، عن حادثة الدهس العدائية في جامعة ستانفورد الأميركية، وكان ضحيّتها طالب عربي مسلم من أصول سورية، هو عبد الوهاب عميرة، نجمت عنها إصابات غير قاتلة، نُقل على أثرها إلى المستشفى، كما نجم عنها فتح السلطات المحلية تحقيقا باعتبار العملية جريمة كراهية واضحة. وأضاف التقرير أن جرائم الكراهية في الولايات المتحدة، كما سجّل الخبراء الحكوميون، آخذة في التزايد ضد العرب والمسلمين واليهود، قبل موقعة 7 أكتوبر/ تشرين الأول ثم العدوان الإسرائيلي على قطاع غزّة. ومن أحداث يأتي عليها التقرير خبر توقيف جامعة كورنيل الدراسة أسبوعا بعد توجيه طالب أميركي تهديداتٍ بقتل الطلاب اليهود، بالإضافة إلى تتبّع حجم التوتر العام الحاصل بين مؤيدي إسرائيل ومؤيدي فلسطين من المتظاهرين داخل جامعتي هارفارد وكولومبيا، هذا من دون أن ننسى حادثة الطعن في 14 من الشهر الماضي (أكتوبر)، التي راح ضحيتها الطفل وديع الفيوي ذي الست سنوات (26 طعنة)، وهو الأميركي من أصول فلسطينية، بينما تعرّضت والدتُه لجروح خطيرة.
ويهمنّا في هذه الأحداث الواردة في التقرير ليس مجرّد رصد تصاعد جرائم الكراهية في الولايات المتحدة المقلق، ولكن تسجيل التحوّلات اللافتة للانتباه في طريقة النظر إلى القضية الفلسطينية عند الرأي العام الأميركي، ولنقل الشعبي بوجه خاص. وإذا ما عبرنا نحو القارّة العجوز، فإن حجم التضامن مع الفلسطينيين المحاصرين في غزّة كان كبيرا، حيث تسجل كاتبة الرأي نسرين مالك، في مقالتها في صحيفة الغارديان البريطانية (6 نوفمبر الجاري)، أن المظاهرات الحاشدة للبريطانيين، ورغم نعتها من وزيرة الداخلية البريطانية المثيرة للجدل ذات الأصول الهندية سويلا برافرمان بأنها استفزازية وتحريضية، فإنها تعبّر هي أيضا وبشكل واضح عن تحوّل في الوعي ليس وليد اللحظة كما تقول الكاتبة، وإنما هو خلاصة عقود من الحروب اللاأخلاقية في كل من فيتنام والعراق التي لا يستطيع أحد اليوم أن يجادل بشأن فظاعة ما حصل فيها من جرائم ضد الإنسانية. ولهذا اختارت نسرين مالك عنوان مقالها بعناية كبيرة، ومفاده أن مسيرات التأييد للفلسطينيين ليست "مسيرات كراهية" حسب ما يدّعيه السياسيون، وإنما مسيرات معبّرة عن التضامن والعجز والإحباط والإحساس بنوع من انعدام التأثير في السياسة، تلك المشاعر التي ساعدت وسائل التواصل الاجتماعي على انتشار الوعي باشتراك الجميع في تجرّع ضررها من السياسيين والحكّام من دون استثناء. ولذلك، حذّرت الكاتبة من فكرة تبسيط هذه المظاهرات، أو عدم الاكتراث لصداها، واعتبرتها "فكرة سيئة" تنمّ في حقيقتها عن رغبة واضحة في تعمّد السياسيين عدم فهم الحقيقة، الحقيقة التي صارت الشعوب أكثر إدراكا لها. وأضافت أن القضية الفلسطينية ليست محطّة الظلم الوحيدة في هذا العالم، ولكنها فريدة حسب وصفها، تتركّز فرادتها في كمّ أحداث التهجير والاحتلال والتوسّع الاستيطاني خلال كل العقود التي مضت، ولهذا أخذت تتطوّر شيئا فشيئا داخل الوعي الجمعي الغربي، إلى أن وصلت إلى نقطة قوتها الحالية والكامنة في قدرتها على دفع عديدين إلى الخروج وإعلان التضامن الواضح مع الجرائم التي تُرتكب باسمهم في حقّ هذا الشعب المظلوم. وآخر ما يلفت الانتباه في مقالة نسرين مالك رصدها هي الأخرى تحوّلاتٍ دقيقةً ما زالت تطبع تعامل الرأي العام الغربي مع القضية الفلسطينية خلال العقود المنصرمة، حيث كانت تربط القضية دوما بنضالات اليساريين الدائرة حول قضايا تقرير المصير والمساواة، لكنها أخذت، بعد ذلك، تندمج شيئا فشيئا في ما سمّته حركة العدالة الاجتماعية ومحاربة العنصرية. ولهذا رصدت الكاتبة بدقّة مسألة لافتة سنة 2021 تمثلت في إصدار "حركة حياة السود مهمة" بيانا تضامنيا مع الفلسطينيين، يجسّد حقيقة هذا الاندماج المذكور.
سيجد الأميركيون، باستمرارهم في هذا السيناريو الداعم لإسرائيل من دون شرط أو قيد، أنفسهم منعزلين شيئا فشيئا عن العالم
في السياق ذاته، يكتب مايكل يونغ، على صفحات موقع مركز مالكوم كير– كارنيغي للشرق الأوسط، مقالة تحت عنوان لافت "مؤامرة الصمت" (2 نوفمبر)، معتبرا أن لاأخلاقية سياسيي الدول الغربية وصلت إلى حدّ لا يطاق، وهو سبب إضافي يفسّر لنا الخلاصات السابقة بخصوص التحوّل في الرأي العام الغربي تجاه القضية الفلسطينية، فعندما يصرّح رئيس حكومة الاحتلال، نتنياهو، بوقاحة كبيرة، وعلى الملأ، بأنه يسعى إلى ترحيل الفلسطينيين من غزّة نحو سيناء المصرية، فذلك لا يعني، حسب يونغ، إلا شيئا واحدا، أننا نتعامل مع عملية تطهير عرقي كاملة الأركان حسب التعريف الرسمي للأمم المتحدة لها، وتعني أيضا أننا نتعامل مع كيان يعتبر "التطهير العرقي" وسيلةً من الوسائل المقبولة، والتي لا ضيْر في طرحها للرأي العام العالمي، بل والضغط على الأوروبيين وأميركا لإنجاحها. الأمر الذي دفع يونغ إلى التعليق ساخرا، فكيف نريد من شعوب العالم ودوله، بعد هذا كله، تصديق الخطاب الأوروبي والأميركي تجاه روسيا أو غيرها!؟
ومن الأمور المؤكّدة لهذا التحول في الوعي الغربي، والمفسّرة كذلك حجم التضامن المتزايد مع الفلسطينيين، طبيعة تعامل الرأي العام مع الفضيحة التي كشفتها "ورقة الموقف" التي نشرها المعهد البحثي اليميني "مشغاف" الذي يديره مئير بن شبات، المقرّب من نتنياهو، وأعدها أمير ويتمان، الناشط في الليكود والمساعد لوزيرة الاستخبارات الإسرائيلية جيلا جمليل، حسب مقالة يوفال ابراهام (28 أكتوبر)، في المجلة الإلكترونية "محادثة محلية"، وهي ورقة تم سحبها من منصة "إكس" بعد ردود الفعل الدولية القوية ضدّها. وحسب يوفال أيضا، فهي المرجع الذي انبنت عليه وثيقة وزارة المخابرات الإسرائيلية.
وعودة إلى مايكل يونغ، سيجد الأميركيون، باستمرارهم في هذا السيناريو الداعم لإسرائيل من دون شرط أو قيد، أنفسهم منعزلين شيئا فشيئا عن العالم، ويقصد بذلك بعد اتّضاح عبثية خطابهم وتحيّزه الواضح ضد كل القيم الإنسانية والأخلاقية التي ظلت تتراكم جرائم تجاوزها الإسرائيليون إلى أن بلغت نقطة اعتبار الدعوة إلى تطهير عرقي وبدم بارد أمرا منطقيا ومرغوبا فيه.