صحافة الرأي في مغرب اليوم

19 ديسمبر 2021

صحف مغربية في الرباط (29/8/2015/ فرانس برس)

+ الخط -

مما يتميز به عهد الملك محمد السادس في المغرب اتساع رقعة حرية التعبير، تعبيراً من الدولة عن تجاوز إرث الماضي القمعي، وشيوع تعهدات جديدة من ضمنها الاعتراف بمكانة الحرية على مستوى الصحافة. ومنه أنّ المغاربة شهدوا صعود أقلام صحافية شابة، وبروزها على الساحة، وظهور مشاريع صحافية طموحة، مثل صحف: الصحيفة، الجريدة الأخرى، الأيام، المساء، أخبار اليوم .. إلخ. وأصبح المغرب فعلياً يعيش مناخاً من الحوار بين أقطاب أيديولوجية عدة، وكان التداول على الخيارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والدينية .. إلخ يعيش أزهى مراحله، في مناخٍ أقلّ ما قد يوصف به أنّه أوجد ظروفاً صحّية ليفكّر المغاربة في مستقبلهم، ويتعلّموا التعبير عن هواجسهم، ويألفوا سماع الرأي والرأي الآخر. وقد استطاعت الصحف المذكورة استقطاب أقلام شبابية عديدة، كما فتحت ملفاتٍ جادّةً حول الإرث السياسي المغربي، ونبشت في مسلّمات اعتقد كثيرون أنّ نقاشها قد تم تجاوزه.

ولعلّ من عايش تلك اللحظة جيداً يتذكّر كيف أنّ شراء الصحيفة اليومية والأسبوعية تجاوز مستوى الرغبة في الاطلاع على المعلومة أو مواكبة الخبر إلى مستوى الانخراط في واجب تثمين واقع الصحافة المغربية، والإسهام الجماعي في تمتين حضورها أكثر. ولا مبالغة في القول إنّ بعض الملفات الأسبوعية تحوّل إلى مادةٍ دسمةٍ تشغل بال موائد النقاش والحوار الأكاديمي. وقد صنع هذا الماضي القريب أقلاماً تحوّلت إلى مشاهير بلغ بكثيرين إلى تصوير افتتاحياتهم أو مقالتهم في الرأي، وتدويلها بين عموم القراء والباحثين.

كان المغربي في السابق، على اختلاف توجهاته، يستشعر وجود من يعبر عنه، ومن يوصل رأيه وفكرته

والأهم في هذا المناخ أنّه كان علامة صحّية، تمنع سماء المملكة من التلوّث بغيوم الاستلاب للرأي الواحد والقرار الواحد والفكرة الواحدة. كانت تعبيراً عن وجود وجهات نظرٍ تخالف دائماً المعتاد والسائد والأكثر حضوراً ونفوذاً. لذا، كان المغربي، على اختلاف توجهاته، يستشعر وجود من يعبر عنه، ومن يوصل رأيه وفكرته، وهي مسألة في غاية الأهمية السياسية، بما تُحدثه من تنفيس للاحتقان، والإحساس بالكبت والاختناق، وكسر طابع الشمولية المتسلطة.

استمرّ الوضع على هذه الحالة، بين مدّ وجزر، وعرف تجاوزاتٍ وخروقاً حقوقية عديدة، لكنّه لم يصل أبداً إلى الطريق المسدود، ولعلّ الصعود الأول للإسلاميين إلى السلطة، ممثلين في حزب العدالة والتنمية، كان شاهداً هو الآخر على قيمة التعبيرات الصحافية الجادّة في المغرب، ممثلةً في ذلك الاستقطاب الحادّ للآراء حول تثمين تجربة هؤلاء، أم نسفها، وما الذي يعنيه أن يكون في المغرب إسلاميون على سدّة الحكم.

توارد الآراء هنا وهناك يمنح سياسيينا، والمسؤولين في مختلف المواقع الحساسة وغيرها، مادة استراتيجية ترشدهم في التفكير، وتزيدهم درايةً بما هم مقبلون عليه من مخاطر

إلّا أنّ هذا الواقع، وما يثير واقع الدهشة عند المتتبعين، لم يصمد بعد ثورات الربيع الديمقراطي، والذي كان يُتوقع فيه أن يجلب العكس. قد يُرجع كثيرون الأمر إلى صعود ثوار بغير سوابق معرفية وثقافية وسياسية ونضالية، بمعنى أنّ ظهورهم السريع شابهَ غيابهم وأفولهم. أما الصحافيون فصاروا أكثر مثارا لحنق الجهات المسؤولة وسخطها، فقط لأن لأصحاب مقالات الرأي السياسي رأياً آخر دائما فيما يقع، وبدل سرد الخبر والمعلومة، يحاولون تحليل ما يقع داخل سماء المملكة السياسي.

يعتقد سياسيون كثيرون في المنطقة أن لا مصلحة تجنيها الدول من الأقلام السياسية التي تشوّش في اعتقادها على مشاريعها وسياساتها العامة، وتبخس من جهودها في الإصلاح والتنمية. ولذا، سيكون مفيدا نقاش المسألة من زاوية المصلحة، للدفع نحو استيعاب قيمة وجود هؤلاء (اقتصادية إن شئت) وخطورة غيابهم كذلك، في أبعادها الاقتصادية أيضاً.

يعرف من يزاولون السياسات العمومية عالميا، وبناء على تجارب الدول الديمقراطية، أنّ المناخ السياسي مكوّنٌ أساس في منح انطباع إيجابي داخلياً، ومنح الثقة للأجنبي خارجياً، ولا يمكن للمناخ السياسي أن يستوي إلّا عند تعبيره عن كلّ وجهات النظر السياسية في البلاد. نقول التعبير، باعتباره حدّاً أدنى لا يمكن التغاضي عن وجوده. كما أنّ توارد الآراء هنا وهناك يمنح سياسيينا، والمسؤولين في مختلف المواقع الحساسة وغيرها، مادة استراتيجية ترشدهم في التفكير، وتزيدهم درايةً بما هم مقبلون عليه من مخاطر، وما يمكّنهم أن يحققوه من مكاسب أيضاً، بل إن كتّاب الرأي يمكنهم أن يمحنونا عند المزج بين ما يكتبونه صورة عن الوضعية السيكولوجية للمجتمع في تلك اللحظات، وسقف توقعات الجماهير، طموحاتهم وخيبات أملهم كذلك. ولذا، لم يكن عبثاً أن تتموضع الصحافة في خانة السلطة من دون أن ينازعها أحد في تلك المكانة.

نتساءل عن الفائدة التي جنتها الجهات المسؤولة عن غياب العديد من أقلام الرأي عن الساحة الصحافية المغربية

إذاً، يجنّبنا كتاب الرأي التورّط في أشياء قد تجني علينا مستقبلاً، وتُفقدنا مدّخرات كبيرة من ميزانيات دولنا، وهم، إن صحّت العبارة، شبيهون بمراكز تفكير تمنحنا دائماً تقارير ودراسات غير مباشرة، يمكننا الاستفادة منها في تجويد المنجز السياسي والتنموي في بلداننا. ومنه، نرجع إلى الواقع المغربي اليوم، ونتساءل عن الفائدة التي جنتها الجهات المسؤولة عن غياب العديد من أقلام الرأي عن الساحة الصحافية المغربية، ونتساءل معهم أيضاً عن مدى إدراكهم خطورة الصمت الذي يحفّ صباحات المملكة يومياً، من دون أن يستشعر المغاربة أنّهم يعبرون عن هواجسهم المقلقة. ونتساءل أيضاً هل الوسائط الإلكترونية البديلة التي انتشرت، قادرةٌ أن تسدّ مسدّ كتابات الرأي الرصينة والجادّة، بما تنشره هذه القنوات من تفاهات وما تنتجه من شخصيات ورقية، لا دور لها إلّا الإلهاء المزدوج للمجتمع، وتزجية الوقت للسياسيين. وتضييع زمننا التنموي الثمين.

ينبغي أن نصارح أنفسنا دوماً بأن القلق الذي قد نعيشه بحكم اختلافنا، واحترامنا وجهات نظر كلّ منا، يؤول دوماً لنضج مجتمعاتنا وتحوّلها نحو الفعل السياسي المستوعب والأكثر جودة، بينما خنق فضاء الرأي وتوجيه النقاش والتحكّم فيه إنّما هو مثل توجيه عجلة الاقتصاد التي لا يمكنها إلّا أن تكون حرّة تتحكّم فيها السوق وعقول المبدعين، وليست إرادة السياسيين.

90B07B72-ECA0-4CEE-AE30-DE797621F18A
عبدالله هداري

كاتب وباحث مغربي يقول: "فعل الكتابة بعد الثورات يعكس قدرتنا أن نوقع تغييراً وأن نغاير معطيات اليأس الذهني/الواقعي، المتحكمة فينا لعقود، ونخلق عوالمنا الممكنة/الجديدة".