ثُوار جيل 20 فبراير في المغرب

19 فبراير 2022

مغاربة يتظاهرون ضمن حراك 20 فبراير في الرباط (20/2/2011/ Getty)

+ الخط -

كلما حلّت ذكرى العشرين من فبراير (2011)، اللحظة التي خرج فيها المغاربة معبّرين عن التحاقهم بركب ربيع الديمقراطية، تأخذني الذاكرة إلى هذا الماضي القريب، ويدفعني وازع التأمل إلى محاولة فهم اللحظة بمنطق جديد، والمقارنة بين ما كان قبلها وما صار إليه وضع المغاربة والمغرب بعدها.

لا يمكن أن ننسى صدق المشاعر التحرّرية التي انتابت كلا منا ساعتها، أن تجد نفسك مستيقظا في وقت باكر جدا، لتستعد للالتحاق بساحة "الحَمَام" (أو نيفادا) في الدار البيضاء، أو شارع محمد الخامس في الرباط، وأنت مندفع تمام الاندفاع لعيش اللحظة بكل تفاصيلها. يهمك في ذلك اليوم كل شيء يحدُث، محاوراتك، حركاتك وحركات المارّين، تدفق الجماهير، عفوية الشعارات، لباس الحشود، نسبة الإناث ضمن الحضور، أنواع الرايات المحمولة وأشكال الشعارات، كل شيءٍ يحفر بعمق في مخيالك وذاكرتك، بشكلٍ يوثق اللحظة، عندما تكون غير مألوفة وتاريخية. .. كان الجميع منتشيا بالحضور ورفعِ الصوت مطالبا بالحرية والعدالة والعيش الكريم، مطالبا أن يتساوى بشعوب العالم المتقدّم، ومعلنا أنه لا يقل قيمة عن عيش حلمه قيد حياته.

كان الجميع منتشيا بالحضور ورفعِ الصوت مطالبا بالحرية والعدالة والعيش الكريم

أذكر كيف كانت الساحات مكانا يقترب فيه اليساري والإسلامي والأمازيغي واللامنتمي ومُطَلّق الانتماء أيضا إلى بعضهم بعضا. كان الكل يراقب سلوكات الآخر ويتحسّسها. كانت الساحات مجالا شديد الانفعال بهؤلاء، فجميعهم لم يألف أن يخرج عن أسوار الجامعة، ولم يتوقع أن يضم صوته للمختلف إيديولوجيا من أجل الغاية نفسها. وأذكر كيف أن كل أصحاب هذه التوجهات أعاد اكتشاف ذاته ورؤاه وتوقعاته وأحلامه، فالنضال داخل الأروقة الجامعية أو النقاش النظري قد تحوّل لحظة العشرين من فبراير إلى اختبار حقيقي شديد الإحراج لكل هذه الأطراف.

أما الكتابة، فتلك اللحظة كانت تلك الشرارة التي تتولد في التاريخ، فجعلت كثيرين يعيدون رفع القلم والتعبير عن أفكارهم وتحليل لحظتهم والتعبير عن أحاسيسهم وتخوفاتهم ومطامحهم أيضا، فمنهم الُمنظّر والأكاديمي الذي حاول تحليل ما يقع وفهم أبعاده ووضع فرش ثقافي ومعرفي قد نحتاجه ما بعد لحظة العشرين، ومنهم أصحاب المقالات التي انهالت، والكل يعبّر عن المغرب الذي في خاطره.

كانت الساحات مكانا يقترب فيه اليساري والإسلامي والأمازيغي واللامنتمي ومُطَلّق الانتماء أيضا إلى بعضهم بعضا

المفاجئ حينها أن الجميع اكتشف أن الشباب الذين ملأوا الشوارع وقنوات التواصل عبر الشبكات الاجتماعية معادلة صعبة لا يمكن التنبؤ بفعلها وسلوكها، ولا يمكن ضبط أفق توقعها. وأقصد هنا الفجائية التي طبعت الثورات في المنطقة، والتي وضعت السوسيولوجيين أمام عجزٍ مخجل في التوقع، على الرغم من كل ملاحظاتهم الميدانية. فملأ هؤلاء الشباب الإعلام بكل أنواعه، وعاينا بشكل سريع ومنقطع النظير، كيف برز هؤلاء النجوم التحرّريون، الذين لا يملكون إلا حناجرهم والحلم الذي كبر معهم.

هنا، لا ينبغي أن يُغفل ذلك التوتر الذي حصل بين هذا الجيل الجديد والأجيال التي سبقتهم، في كل متعلقاتهم، سواء وسائلهم أو شعاراتهم أو أفقهم، فهم بعيدون عن كل الإيديولوجيات التقليدية، في أيديهم هواتفهم، وفي أعينهم ترتسم كل تفاصيل العالم، وفي مخيالهم الحرية بكل تفاصيلها من دون أن تقلّ عن حرّيات شباب المعمورة أجمع. أما جيل الإيديولوجيا من أبناء السبعينات والثمانينات، فموقعهم كان المتفرّج المطلق، كأن هول اللحظة وفجائيتها لم يمنحهم القدرة لاتخاذ أي فعل يذكر.

ومن أمورٍ لا تفارق مخيالي كيف استوعب جيل "20 فبراير" علاقته بالأقطار الأخرى، بعيدا عن التاريخ وكل قيم ما قبل الربيع، فالرابط كان، إلى حدٍّ ما، ثقافيا وجغرافيا، إلى جانب الانتماء للمصير نفسه. ولهذا، كان التنافس شعار هؤلاء، ولسان حالهم يقول: لا يمكن أن نتخلّف عن لحظة الحرية، ولسنا مخلوقاتٍ من الزهرة. وعندما نذكر الثقافة هنا، نعني بها ثقافةً مرتبطةً بثورة التكنولوجيا، وثورة جيل الاتصال العالمي. إذن، نحن أمام ثقافة داخل الثقافة العالمية، استطاعت أن تنحت تعابيرها وتعي خيبات الأمل الخاصة بها، واستطاعت، بقدر ما اتصلت مع شباب العالم، أن تنفصل بخصوصية الوعي بما تحتاجه. لقد شكّل هذا النوع من الثقافة مأزقا كبيرا جعل المثقفين والكتاب يفكّرون في الدور الجديد الذي يمكنهم أن يلعبوه.

الشباب الذين ملأوا الشوارع وقنوات التواصل عبر الشبكات الاجتماعية معادلة صعبة

لقد مارس جيل "20 فبراير" نوعا من الظهور المباغت والاستعراضي، بلغة لوغاريتمية تنتمي لعالم الإنفوميديا، ورمزيات صارت توظّف الصورة بأبعاد جديدة، وتستطيع تقديمها للمشتركين في التطبيقات بوتيرةٍ تنتمي للحظة السرعة في نهاياتها الحداثية.

أمام كل هذه الصور، بحثت في الذاكرة عن السياسيين وعن الوجوه المألوفة والمتسيّدة كل المجالات، فلم أجدهم إلا منتظرين ما تؤول إليه الأوضاع دوما، لاقتناص مركب يمكنهم من خلاله السيطرة على هذا المد الذي يعون جيدا أنه سيجرف لا محالة ثقافتهم وواقعهم الذي ألفوا السيطرة عليه بعجرفة وثقة بالغة.

اليوم، ليس للعاقل إلا أن يقرّ بأن أبناء لحظة العشرين ليسوا في كمونٍ، كما يتصوّر كثيرون، أو أنهم فقدوا شغفهم، وسيطر الإحباط على مجمل مخيالهم وفعلهم. ليس ذلك كله صحيحا، ولعل اللحظة الفجائية التي سبق أن تحدّثنا عنها خير دليل على وهم هذه الحقيقة. بل السلوك النضالي تغير اليوم، وبتنا أمام إمكان فوران الوضع وتغير الحال، بعد كل مقطع فيديو، أو تسريب معلومةٍ من المعلومات، أو هاشتاغ أو صورة .. إلخ، ولك أن تضع تحدّي عالم الميتافيرس أمامك وما قد يجرّه من سلوكيات وأفكار وآفاق. إذن، نحن، بحسب عبارة عالم الاجتماع زيغمونت باومان، أمام "سيولة" صارت تميز الفعل النضالي نفسه، فالحداثة لا يمكنها أن تبقي على نمط واحد وأبدي، ومن أنماطها الجديدة ربيع الديمقراطية في بلداننا.

90B07B72-ECA0-4CEE-AE30-DE797621F18A
عبدالله هداري

كاتب وباحث مغربي يقول: "فعل الكتابة بعد الثورات يعكس قدرتنا أن نوقع تغييراً وأن نغاير معطيات اليأس الذهني/الواقعي، المتحكمة فينا لعقود، ونخلق عوالمنا الممكنة/الجديدة".