القراءة تستدرج الكتابة

24 ابريل 2023

(علي بنيصدر)

+ الخط -

المشاهدات قراءاتٌ من نوع ما، وكلتاهما، قراءة الحياة وقراءة الكتب، تتمان بالعين غالبا. لذلك سمّيت مشاهدات، وسمّي ما تشاهده في الكتب بعينيك قراءات. هذا المزيج إذن هو ما يشكّل المبدع، ولكن ما قرأناه أو أبدعناه لا يخرج غالبا عن هذا التأرجح بين التذكّر والنسيان. بين نسيان الكتب واستحضار مشاهدات الحياة. يمكن أن تذكّرك عبارة في كتابٍ تقرأه بمشهدٍ مرّ على حياتك، فتتوقف لحظة لتخزّنه قبل أن تكمل قراءتك. يحصل أحيانا أن تسجّل ملاحظاتك، لأنك لم تعد تثق بالذاكرة. تسجّلها في دفتر أو ميناء هاتفك أو صفحة جهاز الكمبيوتر.ألم يقل بورخيس: "ما ندعوه إبداعا هو مزيج من نسيان ما قرأناه وما نتذكّره".
حين تكون القراءة في  الليل تكون وحيدا أمام الكتاب، أشبه بشاهد، حيث يكون أغلب من حولك في سُبات، ولديك كامل الحرية للدخول عميقا فيه أو هجرانه، ولكنك تظلّ سهرانا معه. هناك كتبٌ قرأنا نصفها، بينما ظلّ النصف الآخر معلّقا يشبه أوراقا بيضاء لم تُكتب بالنسبة لذاكرتنا. حين نقرأ لا نحتاج إلى التذكّر، نحتاجه أكثر حين نكتُب. ولكن التذكّر يغزونا حتى في أثناء القراءة، معربا عن حاجته إلينا أكثر من حاجتنا إليه. يشبه في هذه الحالة لحظة الخصوبة الغريزية. لا بد من فعل الإخصاب، حتى يحدُث الحمل ثم الولادة. لذلك تولَد جملٌ جديدة نتيجة قراءاتنا. وإذا كنّا نتحدّث عن القصص والمقالات، فإن كل قصة ومقالة هي نتيجة لهذا الإخصاب الغريزي الساهي. هنا لا يتدخّل الإدراك العقلي بالضرورة، إنما يتدخّل "ليبيدو" المبدع (من ابتكارات فرويد). 
إذا أُهملت الفكرة ولم تُستثمر في وقتها طارت، وربما بلا عودة. لذلك نعمد إلى تخزينها. لا أتحدّث هنا عن سرقة أفكار بقدر الحديث عن محفزات. يقال إن المعرّي أوحى لكتّابٍ عديدين في القرون اللاحقة له، ووحي المعري مستمدٌّ من وحي الإسراء والمعراج. ملأ المعرّي العالم الآخر بالدواوين والشعراء، بينما ملأها دانتي بغير ذلك. إذا كانت هناك قراءاتٌ تستدرج موضوعا، فالأمر هنا يتعلق بغذاءٍ للكتابة. طرف الخيط يأتيك من قراءة، وما عليك بعد ذلك سوى أن تسحبه حتى النهاية. وإذا كنت  بصدد قصّة قصيرة لن يكون طرفُ الخيط هذا طويلا. سترى النهاية أمامك بسهولة، كمن يمشي إلى هدفه في الصباح الباكر. 
قطرة مطر تسقط من سطر في كتاب، يمكنها أن تستدعي أمطارا كثيرة مرّت عليها حياتك. كم عدد الكتب التي دبّجت بوحي من رحلات ابن بطوطة؟ هذا الأمر كذلك يصعب حصرُه، كما  هو الحال بشأن كتاب "الليالي العربية"، التي يصعب حصرالكتب التي أفادت من قراءتها. كم، يا تُرى، عدد الروايات العربية والعالمية التي أوحت بها قراءة كتاب "ألف ليلة وليلة"؟ إننا نتحدّث عن عددٍ ليس نهائيا، كما هي لانهائية "كتاب الليالي"، إذ "بعد الألف هناك ليلة توحي إلى اللانهائي" كما عبّر بورخيس مرة. 
أيضا، توحي لنا قصص الجدّات بأن الوقت من ذهب. ويجب أن ننام بعد الاستماع إلى القصّة أو في أثنائه. لذلك صارت قصصنا قصيرة. ولكن من الممكن أن نستدرج إلى قصصنا بواسطة قراءة كتابٍ ليس قصيرا. فقرة تقرأها في كتابٍ توقظ لديك قصة تشرع في كتابتها، ولا تتوقف إلا حين تنتهي. هل تستطيع أن تبني عالما متكاملا في ثلاث صفحات أو خمس؟ هذا هو التحدّي الحقيقي لكاتب القصة. ولن يستطيع أن يصل إلى ذلك بسهولة من لا يُمازج قراءة الحياة وقراءة الكتب. اقرأ كثيرا لتكتب قليلا. هذا هو سرّ القصة القصيرة... وبالنسبة لابن بطوطة، تأثير كتابه "تحفة النظّار ..." كبير وبلا حدود معلومة، إلى درجةٍ يمكن فيها القول إن ابن بطوطة شريك في كتابة معظم كتب السيرة العربية الجديدة. مثلا، كتب سعدي يوسف "الدروب الذهب" وكتب محمود عبد الغني "الأبدية في بكين". يحضُر فيهما تحديدا ابن بطوطة بالاسم والمنهج. تتبّع سعدي طريقه القديم، وتتبّع عبد الغني تقاطيعه في الصين، وبالتالي، ستكون القراءة هنا هي الكتابة (والعكس محتمل)، وقبل ذلك مشاهدات ابن بطوطة في بلدان الله.

593B5A80-7333-4F6B-AC2C-800C049BDB93
593B5A80-7333-4F6B-AC2C-800C049BDB93
محمود الرحبي

كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية

محمود الرحبي